مطفأة الأضواء، تغطيها طبقة رقيقةٌ من طينٍ جاف كطلاء، تتوقّف سيّارة دفعٍ رباعي، تندمج مع الأرض التّرابية العارية إلا من أشواكٍ جافّةٍ، صفراء، متناثرةٍ دون انتظام، يترجّل من السّيّارة ثلاثة ملثّمين، يتنكّبون بنادق حديثةً، وينثر القمر رذاذاً فضّياً على لباسهم الأسود، فيبدون أشباحاً انبجسوا من باطن الأرض، يندفع أحدهم إلى مؤخرة السّيّارة، يفتح بابها الخلفي، ويسحبُ رجلاً مقيد اليدين، معصوب العينين، محني الظّهر كقوسٍ، يجرجره الملثّم من تلابيبه، يقوده أمام السّيّارة، ثم يضربه بعقب بندقيّته، طالباً منه أن يجثو… يمتثل الرجل لأوامر الملثمين مستسلماً لقدره بهدوءٍ… وسط سيل الشتائم، يرتفع صوت تلقيم البندقيّة، فيحني الرجل رأسه مستمعاً إلى خطوات الموت تقترب منه، لم ير ذكرياته، أو صور أهله ورفاقه، وانشغل عقله بالرصاصة الحاسمة، ستخترق رأسه أم قلبه، أيّهما أسرع ميتةً، أقل ألماً، ستأتي من الأمام، أو الخلف، ربما من الجهة اليمنى، أو اليسرى…!
يرفع أحد الملثمين يده كإشارة توقّفٍ، ثم يخفضها، ويسير جيئةً وذهاباً أمام الرجل “يا ذياب، الاعتراف سيد الأدلة، وأنت اعترفت بأنك كافرٌ، مرتدٌ، وعميلٌ للكفار، ولهذا حكم القاضي بإعدامك”.
يتوّقف الملثم مواجهاً ذياباً، ويتابع “لكنّي أرغب في منحك فرصةً للنّجاة، سأحلّ وثاق يديك، ثم أعدّ للثلاثة، فتركض معصوب العينين إلى الأمام، فإذا وصلت الحدود خلال ثلاث دقائق نجوت، وإلا فأنت تعرف ما ينتظرك…!”.
يتعثر عقل ذياب، ولايدرك الفخ المنصوب له، لا يستطيع رؤية” الهوتة” القابعة أمامه، فاغرةً فاهها كوحشٍ لايشبع…
تقع ” الهوتة” شمال قرية ذياب، قرب الحدود، حفرة عميقة، ضخمة، مخروطية الشكل، قاعدتها قاع” الهوته”، وقمتها تنفتح على سطح الأرض بفوهةٍ واسعةٍ، متعرجة الحواف، ومموهة بصورةٍ يتعذّر رؤيتها للمبصرين في وضح النهار، تمتلئ ” الهوتة” بالمغاور والكهوف؛ وشبكة أنفاقٍ تشكّل متاهةً، ارتبطت ” الهوتة” قديماً باختفاء الناس الغامض، فنسجت الخرافات حولها …!
يبدأ الملثّم بالعدّ “واحد، اثنان، اثنان ونصف، ثلا… ثلا… ثلاثة”
ينطلق ذياب كالسهم، يركض أرنباً يطارده كلب سلوقيٌّ، بضعةُ أمتارٍ يفقد بعدها إحساسه بصلابة الأرض، تتخبّط يدا ذياب وقدماه في الفراغ، ويعاوده حلم امتلاك جناحين، يطير بهما بعيداً بعيداً…!
يقهقه الملثّم صاحب الفكرة” هل رأيتم…؟ يرفرف بيديه، يظن نفسه عصفوراً…!”
يرتطم ذياب بطراوةٍ نديّةٍ، فيستيقظ من حلم الطيران، يتدحرج على الأرض اللينة، الرخوة كاسفنجٍ ممتلئٍ بالماء، ثم يصطدم بجدارٍ صلب، يسند ظهره إليه، تمنحه آلام جسده الإحساس بأنه على قيد الحياة، وتطفح في رئتيه رائحةٌ نتنة، قذرة، عفنة، يقاوم رغبةً قويةً في تقيؤ أحشائه، ينزع عصابة عينيه… على الإنارة الفضية الشحيحة، يرى جثثاً كثيرةً، تتكوّم فوق بعضها كجبلٍ، بعضها متفسخٌ، وأخرى منتفخةٌ كبالون، وغيرها لم يطرأ تغيّرٌ عليها، يندفع القيء من فمه، يمسح فمه بظهر يده، تهرب عيناه، تتسلقان الجدران الشاهقة، تصطدمان بالسماء، تعودان بسقوطٍ حرٍ إلى محجريهما، تمتطي الذكريات صدى صرخته المكتومة”الهوتة!”… تحذير والدته كلما ذهب ليرعى الأغنام”ذياب لا تقترب من الهوتة، تكفيني فجيعتي بوالدك “… حكايات جده عن سعلوّة الهوتة التي تخطف الناس، ولا تسمح لهم بالعودة…لكن ذياب المراهق اقتحم عالم الهوتة المجهول، استكشفها شبراً شبراً، جاب أنفاقها مستعيناً بكرة خيوط صوفٍ مما كانت تنسجه والدته… ثمّة نفقٌ صغيرٌ، ضيق، يتصل بسردابٍ يمتد مئات الأمتار، ويقود إلى سطح الأرض عند الحدود… ينبش ذياب ذاكرته، الجدار الشّمالي … الزّاوية الغربيّة… الجهة السّفليّة، يشرع بتحسس الجدران، مزيحاً الجثث عن دربه…!
يصرخ أحد الملثّمين “هناك حركةٌ في الأسفل”، ويُطلِق صيّباً من رصاصاتٍ تخترق الجثث بصوتٍ مكتوم، يلتصق ذياب بالجدار كاتماً أنفاسه…!
“هل أصبته …؟”
“لا أدري…!”
“أحضرا صفيحة وقودٍ من السيارة…! ”
على وهج النيران، يرى ذياب نفقه، يزحف نحوه، تراقبه عيون الموتى البلّورية، تحدّق به، وتعكس لهيب النيران، يصل ذياب إلى الحدود… يا إلهي، الملثّمون الغاضبون يصوبون أسلحتهم نحوي، ويزمجر أحدهم “أيها الوغد الكافر، من أين ابتدعت النفق…؟”… على أزيز الرصاص، أهرب خافضاً رأسي، ليتني أعرف مخرجاً لي، لا يعرفه المجرمون…!
مجلة قلم رصاص الثقافية