ينطلق فوّاز حدّاد في روايته ” السوريون الأعداء ” من شارع النصر في دمشق، فلا شيء يعكر هذا الصباح سوى اشتباك بين مسلحين ودورية للأمن، وقد خلّف هذا الاشتباك قتلى وجرحى ودمار… أو تفجير سيارة في شارع قريب، أو سوق مزدحم بالناس، إنّ توقع الخطر يشل الحياة أحياناً، غير أنّ الحياة أقوى، أو هذا ما كان يأمله القاضي الذي يعمل في القصر العدلي، والذي غادر حماه قبل ثلاث سنوات إلى دمشق، إنّه يشعر بعدم الأمان وقد خلّف في داخله حاجزاً إزاء المدينة، فقد باتت باهتة موحشة، ربما يشعر أن العطب في نفسه وليس في دمشق.
لقد تغيّرت دمشق، فهي لم تعد كما عرفها ودودة وهادئة “الحواجز الأسمنتية اخترقتها وانتشرت أمام حواجز الدولة ومؤسساتها، دوريات الأمن تستوقف المارة، تطلب هوياتهم الشخصية، احتياطات استرعتها اغتيالات طالت شخصيات مهمّة، وتطلبت تشديد الحراسة على بيوت المسؤولين الكبار، الحملات الأمنية تنقض على الأحياء تبحث عن المطلوبين من جماعة الإخوان المسلمين.
عمل هذا القاضي جعله يتسقط أخباراً تقارب الرواية الرسمية تدور بين الجيش والإرهابيين، تعلن عنها رسمياً وكالة سانا بعد يوم أو يومين منقوصة كالمعتاد، فالتشديد على عدم تسرب المعلومات، لا يكون إلا بقدر ضئيل ومحسوب، وهو النهج المعمول به.
يعيد علينا فوّاز حدّاد ما حصل في حماه فهي معزولة عن العالم، وضربت قوات الجيش حولها طوقاً من الدبابات والمدرعات، لا يسمح لأحد بالدخول أو الخروج منها، الكهرباء والاتصالات الهاتفية قطعت، أصوات الانفجارات تتصاعد في الفضاء، منطقة الحاضر تقصف بالمدافع وراجمات الصواريخ، وفي الأخبار الرسمية “الجيش السوري ينظف حماه من عصابات الإخوان المسلمين”. تطرق الباب على القاضي امرأة وشاب تسلمه طفلاً رضيعاً هو ابن أخيه ويستلم معه زجاجة حليب، تقول له: إنّ امرأة عجوز انتشلت الصبي الرضيع حياً من حضن أمّه الميتة، واجتازت الأسلاك الشائكة والجنود والدبابات وتمكنت من الخروج، تابعت العجوز السير مشياً على الأقدام، وبعد ثلاثة أيام وصلت حمص إلى جامع سيدي خالد، وكان يعج بالهاربين من الدمار الذي عصف بمدينتهم، قالت العجوز للناس الذين حولها إنّ اسمه حازم واباه الطبيب عدنان الراجي، وعمّه سليم الراجي قاضي في القصر العدلي بدمشق، وصباحاً أسلمت الروح.
ويمرّر الكاتب الأساليب التي اتبعها جنود القوّات الخاصة وسرايا الدفاع من تمشيط وتفتيش للبيوت والمساجد والمزارات والقبور والأسواق والملاجئ، عمليات التمشيط هذه، كانت تجبر الضباط على حرق ملابس المدنيين الذين يعتقلونهم، وإشعال اللهب في لحاهم وهم يتقافزون ويحاولون إطفاءها ثم يتبارون في التصويب عليهم بمسدساتهم.
“لم يتعاملوا مع المتمردين فرادى، أخذوا يجمعونهم في دكان أو مستودع ويحرقونهم بالجملة توفيراً للذخيرة، كانوا يرفعون غلق المحل، فيجدونهم كتلة واحدة سوداء مكومين في زاوية المكان”.
والشخصية الرئيسية للرواية هو نقيب يدعى سليمان، كان مهووساً بالقتل لا يشبع من حرق المدنيين، فقد تناول مكبر الصوت وطلب من السكان أن يخرجوا رافعي الأيدي وإلا فجرّ المكان فوق رؤوسهم، فظهروا من مكان اختبائهم في القبو وهم يرفعون أيديهم عالياً، الطبيب الذي عالج الجرحى، أمر بأن يذهب إلى قيادة الفوج، سأله النقيب عن اسمه، فقال له، عدنان الراجي، والبقية رفع الرشاش وسدّد نحوهم، الأم ضمت الرضيع إلى صدرها لتحميه، سارع النقيب وضغط على الزناد، عدة رشقات، انتفض الجدّ والأمّ وسقطا على الأرض، والأطفال الثلاثة سقطوا بلا حراك.
هذا النقيب يسرح من الجيش، بناء على طلبه، ويدخل إلى كلية الهندسة، لكنه يفشل، ويترك الكلية، لكنه يظل يحمل اسم المهندس، بينما الطبيب عدنان الذي اقتيد إلى قيادة الفوج ظلّ حياً يرى الوسائل التي اتبعت مع الإخوان والمشتبه بهم، وما كان ذلك إلا بعامل المصادفة. المهندس بدأ بالوشاية بخاله وأنه من الجماعة اليسارية، وهذا ما أكسبه كراهية أهله والقرية التي ينتمي إليها، فسجن الخال، وارتقى هو وفتح دار مخابرات ينصت فيها على الأجهزة، ويقدم الطاعة والولاء للذين هم أعلى منه، حتى القاضي، أيضاً بطريقة الصدفة، يعمل عنده.
إن الشخصيات في الرواية كثيرة، لكن الكاتب استطاع أن يسيطر عليها، ويبني عالمه الروائي بشكل متماسك ومتين، وقد امتلكت البنية السردية في الرواية بنية تجعلها تتقبّل الإضافة لتعميق الرؤية أو لفتح آفاق في الأمكنة والأزمنة، خاصة عندما تشكل نسقاً بدلالة مركبة، ورغم اهتمامها الأساسي بشخصيات العائلة (الجدّ والأمّ والأولاد الثلاثة) الذين قتلوا بصورة بشعة والأب الذي اقتيد إلى القيادة، فهي أفردت مساحات لشخصيات عديدة كان لها فاعلية في نمو الأحداث وتطورها، وهي لا تسلك مسارات خطيّة من البدء إلى النهاية، وإنما نجد أنفسنا أمام أزمنة تتداخل في مدّ وجزر بحركة استباقية متتابعة فعملية الإجهاز على الأسرة قادت إلى معرفة ما يجري في مدينة حماه، ثم إلى دمشق وما يجري فيها حتى الآن، ثم إلى المحافظات السورية، وابتداع السلطة المواقف والوسائل التي تجعلها مستمرة ولا تزال.
في النهاية بوضع المهندس أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يموت بمسدس اللواء خالد، أو بسكاكين الشبيحة الذين ينتظرون خارج الغرفة، فيفضل الأولى، ليقول بصددها الكاتب: “هذه البلاد لا يؤسف عليها، لن يبقى حجر على حجر، الآلاف المؤلفة من القتلى والجرحى والمفقودين وذوي العاهات، هذه البلاد بلاد الخلود والموت، المجد والخوف، لم يعان من الخوف، ولم يظفر بالمجد والخلود لغيره… والموت، كل هذا الموت والدمار ما كان ليحدث… لو أننا.. وضغط على الزناد كي لا يندم … “.
في الرواية نجد كثيراً من حالات القتل والاغتصاب والشنق والتمثيل بالجثث وتعرية شعر الرأس من قبل الفتيات المظليات.
إنّ اتساق بنية الشخصية تتصف بالتكامل، لإحاطتها بكلّ الجوانب التي يمكن أن تشكّل بنية الشخصية الروائية، وقد عمد الروائي فوّاز حدّاد إلى التنويع في الأسماء الشخصية، وفي صيغ تقديمها، وفي أدوارها، ولأنّ الرواية بسبب طابعها التمثيلي والتشخيصي، يكون المبدع فيها مدفوعاً إلى تنويع الشخصيات من مختلف المستويات الفكرية والاجتماعية وبذلك تسهم بنية الشخصية في الدلالة على محتوى النصّ الروائي، وفي تشكيل جمالية النص الروائي (شخصية الدكتور عدنان، وما لاقاه خلال رحلته في السجون).
إنّ المكان هنا ليس ذا بعد تخيلي، إنه مدينة حماه بأبنيتها وكنائسها وجوامعها وأزقتها وشوارعها وبشرها وحيواناتها، والكاتب يعيش معهم، ويحمل آلامهم، كأنه قديس بينهم يحمل المشعل أمامهم ويمضي.
إنّ الروائي يطرح قضيته في مقدمة العمل، ويسير مع قارئه إلى النهاية، بدون توقّف، ومن خلال ذلك نجده يفسر الحدث الذي بدأ، ولا ينتهي هذا الحدث إلا والرواية قد اكتملت، أو هي بالكاد، لأن الأحداث لما تنته، إنّه يعيش في الذاكرة، ذاكرتنا جميعاً وذاكرته هو، كي يقدم لنا عملاً ملحمياً يعتمد بالدرجة الأولى على قتل سكان مدينة.
في النهاية يجب أن نسجل للروائي أنه أدهشنا بهذه الوقائع التي ثقبت ذاكرتنا وأعادتنا إلى تاريخ كدنا أن ننساه.
فوّاز حداد : كاتب سوري من مواليد دمشق عام 1947، درس القانون في جامعة دمشق، تقلّد عدة وظائف إلى أن سيطرت الكتابة عليه، وتتابعت أعماله منذ ذلك التاريخ، عندما نشر “موزاييك ” في عام 1990 ، وقد رشحت روايته “المترجم الخائن” في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2009، ورشحت “جنود الله ” في عام 2011 للقائمة الطويلة وترجمت بعض أعماله إلى الإنكليزية والألمانية.
“السوريون الأعداء”، رواية صدرت عن دار رياض الريّس للكتب والنشر، بعدد صفحات : 474 صفحة من القطع والمتوسط.
مجلة قلم رصاص الثقافية