لا يتردّد القارئ اليوم، بأن يطيح نصّاً بعبارةٍ ركيكة على موقع «غود ريدز» أكثر المواقع شهرةً في تقييم كتاب ما، أو التعامل معه كأيقونة مقدّسة، وفقاً لذائقته الشخصية، فيضع نجمة لكتابٍ ما، وخمس نجوم لكتاب آخر. لا ضرورة هنا لأدوات نقدية في الاشتباك مع النص، إذ يكتفي هذا القارئ بتلخيص المحتوى كيفما اتفق، أو وصف الكتاب بأنه ركيك ومملّ ومضجر، أو «فظيع»، و«فشيخ»، و«رائع». هناك أيضاً أعضاء «نوادي القراءة»، أولئك الذين اقتحموا الساحة مسلّحين بنخوة بدوية في إعلاء شأن كتّاب شعبويين غالباً، أتوا من الشوارع الخلفية للكتابة، وإذا بهم ينافسون كتّاباً معروفين ومهمين في احتلال الواجهة الأدبية، نظراً إلى عمل هذه الورشات المجهولة بدأب على تصدير مثل هذه الأسماء.
منذ سنوات، اخترع أحد المواقع الأدبية كتاباً وهمياً لشاعرة مجهولة، بتصميم غلاف على الفوتوشوب، ووضع صورة لأنثى فاتنة على الغلاف الخلفي، ومجموعة من النصوص المفبركة، وإذا بأحد النقّاد العرب يهدر نصف صفحة في جريدة يومية عن هذه التجربة المذهلة، وسيتورط أكثر بإعلان خطوبته من هذه الشاعرة، محاولاً إبعاد ثعالب النقد الآخرين عن كرمه، قبل أن يكتشف الخدعة (!).
على المقلب الآخر، يؤلف بعض الكتّاب «غروبات ثقافية» متخصّصة في مديح تجاربهم الفذّة في الشعر أو الرواية أو القصة عن طريق أسماء وهمية، كنوع من التسويق المراوغ لكنوزهم النفيسة. كل هذا حدث ويحدث كمحصلة لخلاء الساحة من النقّاد الكبار، بعد تسلل محررين مبتدئين لإدارة صفحات الكتب، بوجود منابر لا تحصى إلكترونية وورقية تلتهم يومياً مئات النصوص العرجاء، تليها إطراءات فخمة، وإذا بمبتدئة ما تجد نفسها إميلي جاكسون أخرى بضربة كيبورد واحدة. علماً أنها لم تقرأ لهذه الشاعرة سطراً واحداً قبلاً، وآخر رامبو عربياً، وثالث حفيداً شرعياً لكافكا. هكذا تُهدى الألقاب والمصطلحات بلا خشية أو وجدان نقدي في تقييم النصوص، عدا أسماء محدودة ما زالت تعمل بدأب على رسم خرائط نقدية جادة في مواكبة التجارب النافرة في الكتابة، رغم فوضى المشهد. على الأرجح، تكمن المعضلة النقدية في جانبٍ منها في قصور أدوات الناقد أمام مقترحات الكتابة الجديدة، إذ يركن معظم النقّاد إلى نظريات نقدية قديمة طويت في بلد المنشأ، أو أنها وصلت متأخرة إلى لغة الضاد، فيما يختزل آخرون تجربة ما بوصفة جاهزة يمكن تعميمها على أي رواية أو ديوان شعري، أو مجموعة قصصية، باستيراد مصطلحات من طراز «التبئير»، و«العتبات النصيّة»، أو «أزمة الذات»، ثمّ وضع علامة «رحى» أو «أحسنت» في نهاية السطر الأخير من المقال. كان رولان بارت قد أعلن عن «موت المؤلف»، داعياً إلى لذّة النص بصرف النظر عن صاحبه، إلا أن هذه النظرية لم تصمد طويلاً، أمام نظريات أخرى. من جهته، دعا رونان ماكدونالد إلى «موت الناقد» وتأبينه لمصلحة سلطة القارئ، وذلك بقوة ثورة الاتصالات التي أزاحت وصاية الناقد الأكاديمي جانباً لتنتصر ديمقراطية القراءة. غير أن «عصر القارئ» أصابته رضوض في العمق لغياب الأسس الصلبة عمّا يكتبه هواة من تدوينات أو إشارات في تمجيد أو هجاء هذا النص أو ذاك. لا مرشد حقيقياً اليوم لاستبصار ما هو نوعي في الكتابة أمام طوفان النشر من جهةٍ، وعشائرية النقد من جهةٍ ثانية، بالإضافة إلى رسوخ «النقد الزبائني» في المدوّنة النقدية العربية. لن يجد الروائي أو الشاعر من ينصف كتابه بما يستحق، لا مجلّات ثقافية مقروءة، ولا منابر رصينة، ولا نزاهة أو شجاعة نقدية إلا في ما ندر، فاكتفى مضطراً بمدائح قراء مجهولين، أو صورة لغلاف كتابه في أحد معارض الكتب، أو إدراج عنوان كتابه بقائمة أفضل خمسة كتب قرأتها، أو بقائمة طويلة أو قصيرة لإحدى الجوائز العربية، مغتبطاً بأنه ما زال حيّاً في سجل نفوس الكتابة، حتى لو كان اسمه في أسفل الفهرست. هنا شهادات روائيين وشعراء ونقّاد في توصيف أحوال النقد اليوم، والحيرة بين وصاية الناقد وديكتاتورية القارئ الشعبوي.
بصم اللايكات
أسعد الجبوري، شاعر وروائي عراقي:
هل من الصواب اعتبار الشعر حاسةً مضافةً لبقية حواسّ الجسم الآدمي؟
نعم. يمكن ذلك لأن الشعر مادة إلهية لصناعة الجماليات الأعظم والأرقى التي تقوم على تطوير أسلوب بقية الحواسّ عند العارفين أو غواة الفنون والآداب في الوجود.
لكن مسألة التكامل ما بين الشعر والنقد، ضربٌ من العبث، ما دام كلّ منهما يشتتُ حركة الآخر ورقياً وذهنياً. النقد يطمح بالبطولة، عندما يستعرض عضلاته أمام كلمات القصيدة، فيما تأخذ القصيدةُ الناقد لتُغرقه بغموضها وتعذبهُ بالجاز وبالمجاز والتمويه والاستعارة والبلاغة وطواحين الجنون. لم يَعُد الناقد مالكاً لسلطة الراعي أو مهنتهِ بقيادة القطيع، مثلما كان دوره في مهنة النقد والملاحقة والاستقصاء والصفع والوعظ. أجل. فلقد سقطت يدهُ أرضاً عوضاً عن العصا التي كان يهشُّ بها على الخراف والماعز والدجاجات البضّة في زمن الستينيات وما فوق طوابقها الزمنية حتى التسعينيات عندما وقّت ظهور عوارض انكسار السرعة والتلكؤ في الحركات النقدية، بعدما كان الناقد يتماهى بدور مربي اللغة وصلة الوصل ما بين معنى النص وما بين ذهن القارئ. بل يمكن القول بأن النقد كان ولفترات طويلة يؤسس لنفسه رتبة زعامة اللغة بالذات، تلك التي تفتح أبواب التفاهمات ما بين الكتاب المطبوع والمتلقي المقموع والتائه في غبار المصطلحات وضوضائها بدءاً بالرومنطيقية والواقعية والدادائية والسوريالية إلى التفكيكية والألسنية والبنيوية والإيروتيكيّة والاشتراكية والواوية والجهادية والسلفية…
غابة المصطلحات المغطاة بالغبار النقدي الفلسفي تلك، لم تمنح الشعر استقراراً، لأن لكل مصطلح حاضنة تختلف عن الأخرى بالاحتضان وبتربية النصوص ومراقبة نموها على الورق وفي الذاكرة، ما دفع بشعراء قصيدة النثر والهايكو ونانو إلى أن يديروا ظهورهم إلى عمال النقد من دون الاكتراث بعملياتهم التي لم تتجاوز جلود النصوص، دون الوصول إلى ضرورة تشريحها لمعرفة محتوياتها الباطنية البعيدة. إن تخلف ونمطية وتشابه الأدوات عند مختلف النقاد، لم تستجب لتطورات الشعر وأبعاده المتجاوزة لعقليات الوعاظ والمنتمين إلى سلك المفتشين الأيديولوجيين الذين طالما نفذوا عمليات وأد المخيّلة تحت الرمال، دون اعتراف بارتكاب الخطايا التي نجمت للحركة النقدية عربياً، جراء الكثير من المصالح والعلاقات الشخصية ما بين هذا الكاتب أو الروائي أو الشاعر وبين الناقد.
لقد كان سقوط جدار برلين وقفزة البيريسترويكا الاكروباتيكية، دافعاً سارعَ بانتزاع عصا الراعي الأيديولوجي نقدياً، ما أدى بحركة النقد العربية إلى التوقف لالتقاط الأنفاس والبحث عن مصطلحات حديثة، خاصة بعد بروز قصيدة النثر وتصاعد أنجمها التي شكلت ثورةً بديلة عن ثورة الشعر الحر المستهلك أو المُطعَم بالظلال الكلاسيكية للشعر العمودي بمثابة «تشرنوبيل» لغوي في الشعر.
الآن. وبعد غياب النقد التشريحي، تعيشُ التجارب الشعرية وحيدةً في العراء تماماً، خاصة بعد تكاثر الشعراء والشاعرات على حبال التواصل الاجتماعي.
لا حماية للشعر الآن، كل التجارب تعيش في غابة تملؤها الذئاب والخنازير والأرانب والصقور والعنادل والكثير من الصيادين الذين يحسنون التدليس والنفاق والتملق وبصم اللايكات.
نقد ميداني بلا وصايا
وارد بدر السالم، روائي عراقي:
من السهولة أن نقول انتهى عصر النقاد الكبار. وهذه السهولة المفترضة تحكمها معطيات زمنية فرضت شروطها القاسية على الرواد من موتٍ وهجرةٍ وتقاعدٍ اضطراري. ومثل هذا الفضاء الزمني الذي يسير بسرعة جاء بمعطيات نقدية ومعرفية، إلى الحد الذي تحولت فيه حتى المناهج الأكاديمية الجامعية إلى دراسة نظريات نقدية جديدة؛ في الحداثة وما بعدها؛ وفرضت نظرياتها العلمية بطريقة واضحة. وبالتالي لا يمكن قياس فكرة التواصل الاجتماعي على أنها حجّمت من أدوار النقاد الكبار، مع يقيني الشخصي أنّ كل منافذ الاتصالات الحديثة في الثورة الإلكترونية الجبارة، ساعدت بشكل مباشر وغير مباشر على «الاستغناء» النسبي عن الدور النقدي، ولا سيما مع تحجيم أعداد الصحف والمجلات التي تُعنى بالشؤون الثقافية، وشيوع المقاهي والمواقع الثقافية الإلكترونية والمكتبات الرقمية وتبادل الخبرات المجانية. ومثل هذا التنوع المباشر خلق معه ظاهرة القارئ -الناقد الذي كان غائباً لأجيالٍ طويلة تحت وصايات رسمية وفئوية وسلطوية. وعليه يمكن قياس الأعداد الكبيرة في عالمنا العربي التي استثمرت الفراغ النقدي أمام ظاهرة الكتابات المتدفّقة في السرد والشعر والفنون الأخرى، خاصة مع انتشار الكتابة الروائية التي استحوذت على القراءة في العقدين الأخيرين.
هذا التخليق الاضطراري لدور القارئ جاءت معه مواهب متعددة في رؤيا مباشرة مع الكتاب والكتابة. انتشرت بطريقة غير معهودة في النسق الثقافي العربي بشكل عام، وبالتالي تضاءلت أدوار النقاد الذين نسميهم بـ «الكبار» في هذه الدورة الزمنية المفاجئة. وأصبحت الصفحات الشخصية في الفيسبوك مثلاً، أمثلة ميدانية للنقد، مع تحفظنا الكبير على هذه الممارسة التي ربما تكون مزاجية وشخصية من شأنها خلق «شائعات» نقدية حول هذا الكتاب أو ذاك، كما حصل ويحصل في إعلاء شأن هذا المؤلف أو التوجيه الى صرف النظر عنه. وهذه هي الخطورة اليومية التي نراها ونقرأها عبر الصفحات الفيسبوكية والغروبات الجماعية الراصدة للإصدارات الحديثة.
نقّاد بضغطة زر واحدة
نهلة كرم، روائية مصرية:
لا أعتقد أن دور الناقد انتهى أو أنه سينتهي قريباً، حتى مع وجود متسع وأماكن أخرى يتحول فيها القراء إلى نقّاد بضغطة زر، فلا يعني ذلك أنهم يطيحون دور الناقد، ربما تراجع دوره عما مضى، حين كان الكاتب ينتظر مقالاً من ناقد مهم ويحتفي به كأنه حصل على جائزة، باعتباره صكّاً لقبوله كاتباً، ولدخوله الوسط الأدبي. لكن رغم ذلك لم ينتهِ دور الناقد، فبالنسبة إليّ قد يقرأ شخص ما عملاً كتبته لأنه قرأ مصادفة مقالاً لناقد يثق به يتحدث عنه، ربما يحدث الأمر نفسه مع رأي على «غود ريدز» أو أي موقع آخر. لكن للأسف هناك ما لا يمكن التحكم به أحياناً، فالساحة مفتوحة لمن يشتم الكاتب بسبب ما كتبه، ومن يشتم أهله، ومن يقنع الكاتبة بأن الحجاب جيد وأنها لو ارتدته عن اقتناع لاختلف الأمر، مثلما حدث معي في خلط بين بطلة روايتي «على فراش فرويد» التي خلعت الحجاب في الرواية، وبيني أنا شخصياً، لذلك أرى دور الناقد مهماً هنا، لأنه ينظر إلى العمل بحياد من دون سيل من التعليقات الغريبة التي تبتعد عن الحديث عن العمل إلى الحديث عن أخلاق الكاتب ونصحه، ودون أيضاً الاكتفاء بحب العمل لأنه «جميل، أو لمس شيئاً يخص ذكريات الشخص وماضيه، أو لأي سبب آخر، فالناقد هنا يعدل كفة الميزان بعيداً عن الانفعالات.
هناك أمر آخر خاص بكثرة الأعمال المنشورة، أعتقد أنه في ما مضى كان عدد الأعمال القليلة المنشورة يتيح للناقد متابعة أحدث الإصدارات والكتابة عنها بهدوء وعمق. أما الآن ومع هذا الكم من الإصدارات، فأصبح القراء أسرع من الناقد، فكتابة مراجعة لرواية لا تأخذ في النهاية الوقت نفسه الذي يحتاج إليه ناقد لكتابة مقاله، فالناقد قد يحتاج إلى قراءة العمل مرتين للكتابة عنه، واختلاف السرعة هنا لمصلحة القراء وليس في مصلحة الناقد بالتأكيد.
نبذ عقلية الأمس
عزت عمر، ناقد سوري:
انتشار الشبكة العنكبوتية والانفتاح على الثقات وتفاعلها مع بروز دفعات كثيرة من الأكاديميين أفرزت قاعدة واسعة من المعنيين بالنقد الجديد، وأعتقد أنه بات على النقّاد الكلاسيكيين أن يقرأوا هذا التطوّر بعيداً عن عقلية الأمس المرتبطة بنظام تفكير يموضع الناقد كصاحب سلطة وأسرار لا يبوح بها إلاّ لطلبته إن كان أستاذاً جامعياً أو لنخبة معينة ينتمي إليها، هذا إذا ما كان ثمة أسرار فعلاً! فالنقد اليوم علم يدرّس ويتطوّر بالاستمرارية وتراكم الخبرات بما يعني أن الوعي النقدي يزداد باطّراد وتتوسع قاعدته عبر التفاعل اليومي المباشر على صفحات التواصل والمنتديات وسواها. وكمثال على ذلك، كنت قد أنشأت صفحة على الفيسبوك ثمّ أهملتها، لكن بعد فترة عندما عدت إليها وجدت أنها متابعة بإعجاب من نحو 2000 متابع جاؤوا برغبتهم لمواكبة مقترحات النقد اليوم، وهذه العيّنة تشمل فئات مختلفة، ما يدلّ بالضرورة على مدى اهتمام أوساط الشباب من الكتاب والمبدعين، ويؤكد أيضاً على أن النقد بات له دور فعّال في حياتنا الإبداعية والثقافية. وعبر هذا التفاعل المتبادل، سوف يتعزز نظام التفكير المرتبط بثقافة العصر بعيداً عن الإيديولوجيات وأنماط خطاباتها المغلقة.
ناقد البقلاوة والمرقة
ولكن ماذا بخصوص صنف آخر من النقّاد؟ أولئك الذين يكتفون بتقليب الكتاب على عجل، مسترشدين بالصفحات الأولى منه، أو بالنبذة التي تزيّن الغلاف الأخير، وما تيسّر من مراجعات سابقة يختزنها غوغل، أو بالفهرس كبوصلة للمحتوى. يعترف أحدهم أنه يقرأ ويكتب في آنٍ واحد. ما إن يلتقط فكرة في الكتاب حتى يدوّنها، ثم يربطها بالتي تليها، ثم «ينطُّ» إلى فصلٍ آخر، وهكذا يجهز على الكتاب في جلسةٍ واحدة. المفارقة أن صاحب الكتاب، ما إن يقرأ هذه المراجعة حتى يعاجله بالشكر على هذه «القراءة العميقة والنزيهة والباذخة» لكتابه. في ندوة عن رواية لكاتبة معروفة، تصارع ناقدان حول سيمياء العنوان ودلالاته وألغازه، وبلاغة تقديم الخبر على المبتدأ، واختزال ما لا يُختزل لولا المقدرة الفذّة على استبطان المعنى، إلى أن تدخلت الروائية قائلة بأن محرّر دار النشر هو من غيّر العنوان الأصلي لروايتها! في ندوةٍ أخرى عن تجربة الشاعر الراحل محمد الماغوط، تقدّم أحدهم نحو الميكرفون قائلاً: «لم أقرأ لهذا الشاعر قبلاً، ولكنني كتبتُ الآن هذه الأبيات عن جسر دير الزور المعلّق، أحببت أن أشارككم في رثاء هذين الجسرين العظيمين». على مقلبٍ آخر، اعتادت إحدى الروائيات بأن تهدي ناقداً عجوزاً ومتصابياً رواياتها مرفقة بعلبة بقلاوة في طرد أنيق، فكان «ناقد البقلاوة»، في كل مرّة، يردّ التحية بأحسن منها، كما لو أنه اكتشف فرجينيا وولف أخرى، وهو يرشّ على الموت سكّراً. ناقد آخر، كان يكتب نحو خمس صفحات في تقديم مجموعات شعرية هزيلة لشاعرات شابات، فنصحه أحدهم، بأن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من صفحة ونصف صفحة لتحقيق أهدافه المبطّنة، فلمَ هدر الحبر يا صاحبي؟ استجاب الناقد مرغماً فاكتفى لاحقاً بكتابة «مؤخرات» على الغلاف الأخير للكتاب. وينبغي ألّا نتجاهل نقّاداً من وزن الذبابة «ناقد ببطحة عرق»، أو «ناقد المرقة»، ذلك الذي يغرق بمرقة المنسف مقابل الغرق بالكتاب. في مسلكٍ آخر، طلب شاعر شاب من أحد النقّاد أن يكتب تقديماً لمجموعته الشعرية الأولى. انتبه الشاعر إلى عبارة وردت في التقديم «يمثّل الشاعر- وأقرانه- خندقاً طليعياً في الكتابة الجديدة»، فما كان منه إلا أن شطب كلمة «أقرانه» مكتفياً بحراسة الخندق، وحمل الراية، بمفرده!
كيف تتحدّث عن كتاب لم تقرأه؟
يعمل الأكاديمي الفرنسي بيار بايار منذ سنوات في منطقة نقدية مفارقة، تبدو للوهلة الأولى نوعاً من الشغب النقدي. ففي كتابه «كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه»، يجازف باعترافات غير مسبوقة بقوله «ليس من الضروري أن نكون قرأنا الكتاب لكي نتحدث عنه». ويضيف: «بإمكانك أن تحوّل مزايا كتاب إلى عيوب، أي أن تحوّل تحفة فريدة إلى حماقة خرقاء» بأن تخوض نقاشاً محتدماً عن كتاب لم تقرأه، انطلاقاً من مفردة أو إشارة ما تفوّه بها محاورك، داعياً إلى نزع القداسة عن المؤلف والنص والنقد، فالنقد بالنسبة إليه هو «فرشاة لا يمكن أن تُستعمل على الأقمشة الخفيفة لأنها تمسح كل شيء فيها». وتالياً فإن عدم تقديس كتابات الآخرين هو نوع من الإبداع أو الخلق، واكتشاف الذات المتحرّرة من النفاق. «لا تخجل»، «افرض أفكارك»، «اخترع الكتب»، نصائح يرمي بها في وجه القارئ المستجد، مستشهداً بما يقوله فرانسوا بيغادو «أنا لم أقرأ «الكوميديا الإلهية» لدانتي وقد يكون هذا مشكلة كبيرة، إذ أنه لا يمر إفطار أو عشاء من دون أن يسألني القراء عن هذا الكتاب، مع ذلك، أملك قدراً كافياً من المعلومات التي تمكنني من طرحه على نحو كافٍ والتعريف به في تلك النقاشات المريرة». فكاهة بيار بايار لا تتوقّف عند هذا الكتاب، إذ يتساءل في كتابه اللاحق «ماذا لو غيّرت الأعمال الإبداعية مؤلفيها»: «ماذا لو استبدلنا مؤلفاً بمؤلف آخر، قد يبدو أكثر ملاءمة للعمل؟»، داعياً إلى نسف النصوص الأصلية. وتغيير نسبها عن طريق «الاستبدال». وهو بذلك يخضع مفهوم المؤلف للارتياب، كأن يكتب كافكا «الغريب» بدلاً من ألبير كامو، مؤكداً على حق القارئ في التخيّل. ولكن ماذا لو نقلنا طاولة النقاش إلى مقاهي الثقافة العربية؟ لن نجد من لم يقرأ «الكوميديا الإلهية»، أو «البيان والتبيين» للجاحظ»، أو «مقدمة ابن خلدون»، وبالطبع «دون كيخوته» لسرفانتس: «آه لقد قرأتها، أليس دون كيشوت ذلك الذي كان يحارب طواحين الهواء؟».
الأخبار اللبنانية