في قراءة عيّنة عشوائية من مدوّنات مثقفين سوريين طارئين، لا نجد وصفاً دقيقاً أكثر من عبارة “انتحال صفة”.
باعة خردة نوستاليجية يحتلون شوارع مواقع التواصل الاجتماعي مثل صيدليات مناوبة، يعرضون أدوية مقلّدة، وفطائر حكمة مغشوشة، وثمار معطوبة بوصفها إبداعاً بديلاً للنص المقيم، ومحاولة إزاحته عن الواجهة، تحت بند النص المستبد الذي فرض سطوته سلطويّاً. على هذا النحو سعى باعة جوّالون إلى تدمير التاريخ الشخصي للإبداع السوري واستبداله بنصوص رخوة إلا في ما ندر، متجاهلين أن معظم الإبداع السوري واجه مخاضات صعبة، وأتى من الضفة المضادة للخطاب الثقافي الرسمي، لكن فكرة “تحطيم الأوثان” أشاحت بنظر هؤلاء بعيداً، وإذا بنا حيال أرض سبخة لا تصلح للحراثة، وأن حرّاسها الجدّد مجرّد فزّاعات لا تخيف أكثر الطيور جبناً. ما حدث للمنفيين العراقيين الذين هاجروا من بلادهم في حقبة الثمانينات وما بعدها، يعيده بعض السوريين بنسخة مشابهة، فقد كان هؤلاء ينتحلون صفات ليست لهم، وتعذّر أن تتعرّف على صاحب مهنة خارج حدود حقل الإبداع، عدا شخص وحيد كان يباهي في الحانات بأنه كان وسيبقى إسكافياً، أما الشاعر الذي كان يفكّك أزرار القمصان في قصائده الأنثوية، فقد تبيّن لاحقاً أنه كان يعمل في بيع الفحم للمقاهي البغدادية، فيما لم يتردّد آخر بوضع دال وهمية تسبق اسمه بوصفه باحثاً في التراث، ليتبيّن أيضاً، بأنه لم يكمل دراسته الإعدادية. الآن في المهاجر السورية الطارئة، نكتشف شعراء وفنانين وصحافيين لم نعرفهم قبلاً، أو إنهم بأحسن الظروف كانوا من ضيوف صفحات “بريد القراء” في الصحف الرسمية، أو كومبارساً في المسرح الجامعي، أو كتبوا زجلاً عابراً، وهاهم بكامل عزيمتهم يطالبون بإلغاء منجز كل من سبقهم بذريعة أن هذا المنجز سلطوي صرف، كما ينبغي علينا أن نصدّق حيثيات سيرة ذاتية منتحلة، مثقلة بالاعتقالات الوهمية والتعذيب والإقصاء، كما يحدث أمام مكتب للهجرة إلى أوروبا، وأن ندفع أيضاً ثمناً سيزيفياً لسباق المائة متر التي خاضها من جامع الحسن في دمشق إلى أقرب زقاق فرعي في مظاهرة عابرة فرّقها الأمن على عجل. حسن، لقد خرجتَ في مظاهرة ونقدّر لك شجاعتك، لكن ألم تقبض ثمن الفاتورة، وهل علينا أن نحتمل الآثار الجانبية لمأثرتك إلى الأبد؟ نحن لا نحسدك على صورتك السيلفي إلى جانب تمثال غوته، أو على ضفاف السين، أو في شوارع اسطنبول، ولكن أين نصك البديل؟ ثم نرجوك ألا تخترع قصصاً لم تحدث لك، فالذين عانوا من الاستبداد كتبوا مدوّناتهم باكراً، ودفعوا أثماناً باهظة، أما أنت أيها الكائن الطارئ، فدع مكاناً للبياض، ذلك أنك تشبه نسخة أخرى محليّة تعمل بتشبيح مضاد وتطالب بثمن الفاتورة أيضاً.
أرجوكم أغيثونا من مهنة “الإغاثة” فأنتم تغيثون أنفسكم أولاً، تحت عناوين برّاقة، ولا نظن أن المهجرين بحاجة إلى ترميم أرواحهم بعروض مسرحية إغريقية أو شكسبيرية، ذلك أن معظم هؤلاء يحتاجون إلى العتابا والنواح على بيوتهم وأمواتهم أكثر من حاجتهم إلى المنصات المسرحية المموّلة من منظمات مشبوهة في الأصل، ولا تجعلوا من “البسكليتاتي”، أو مهرّب الأغنام، أو لصوص المواد الغذائية، نسخة حديثة من يوسف العظمة. نريد نصّاً سورياً، لا يرى في تمثال المعري مقطوع الرأس مجرد كتلة معدنية، قابلة للصبّ مرّة أخرى، ولا يضع مدرج بصرى، أو آثار تدمر، في باب الأراضي المحرّرة، فالمقاولات الشخصيّة لا تصنع بلاداً، “حين لا بلاد” حسب قصة للراحل جميل حتمل. ما نراه لدى طائفة من الكتبة الجدّد حالة ثأرية أكثر منها بلاغة أدبية أو مشهدية، واختراعاً لمبارزة لم تحدث قبلاً، وإذا بهؤلاء يمتلكون أرشيفاً ثقيلاً لبطولات متخيّلة، منذ أن كانوا تلاميذ في المدارس القروية، يرفضون كتابة مواضيع التعبير الوطنية، أو ترديد الهتافات في مهرجانات الطلائع والشبيبة وحزب البعث. ولكن هل هذه الثأرية هي من تصنع ثقافةً بديلة أم انها الوجه الآخر لنصّ سلطوي مرفوض؟ وهل السفاهة اللفظية في بعض هذه المدوّنات الطارئة هي ثقافة سوريا الغد؟
لا أحد يمتلك مشروعاً ثقافياً بديلاً حتى الآن، إذا لم نقل أن معظم الأطروحات الثقافية الجديدة هي نسخ مقلّدة عمّا كان موجوداً، بفارق موقع المتراس والأجندة المطلوبة بخصوص تعزيز حضور الهويات الصغرى كمشروع مكمّل لخرائط الميدان وتفكيك الفسيفساء الثقافية بوصفها عبئاً ثقيلاً، بدلاً من أن تكون امتيازاً حضرياً ومعرفياً وتاريخياً، ذلك أن ثقافة الهدم الرائجة لا تقابلها أعمال البنائين الجدّد، وكأن المطلوب تحويل الحواضر الكبرى إلى صحارى قاحلة، كي تبدو “مدن الملح” الطارئة، نموذجاً بديلاً، فيما سيبقى السؤال معلّقاً: لماذا لم تستطع الحكومات الوطنية أن تدافع عن هذا الإرث بصلابة؟