الرئيسية » رصاص خشن » عندما كانت الرقة “عاصمة للخلافة”

عندما كانت الرقة “عاصمة للخلافة”

وصلت كراج الرقة، حملت حقيبتي وأخذت تاكسياً إلى شارع المنصور، فابنتي تسكن فيه، وأنا أريد زيارتها، انطلقت السيارة إلى الشارع المذكور، كنت أراقب حركة الشارع والناس من خلال نافذة السيارة، لم يتغير شيء فقط تحوّل شارع المنصور إلى مجرّد صرافين وشركات تحويل أموال، حتى صاحب دكان الكوي أضاف إلى محله مهنة الصرافة، كأنهم كانوا يجلسون في قمقم مضغوط عليهم والان قد زال هذا الضغط، وخرجوا من هذا القمقم إلى فضاء يتحررون فيه من كلّ ما يقيدهم.

وصلت الدار، وبعد الترحيب بي من قبل ابنتي، كانت تريد الخروج لجلب الخبز، فقلت لها: أنا الذي سوف يجلب الخبز، فزعلت ابنتي، كيف يمكن أن أصل الآن وأذهب لجلب الخبز، قلت لها: أنهي فروضك حتى أعود، واستلمت الباب نزولاً إلى الدرج، وعبرت البوابة إلى الشارع العام أمام المستشفى الذي كان مغلقاً، وسرت باتجاه شارع 23 شباط، نحو الشرق، كانت الرقة كما هي، لم يتغير فيها شيء، فقط تغيرت النساء، فقد كن يضعن النقاب على وجوههن، لتغطيته فلا يظهر سوى العينين اللتين تكحلتا بكحل أسود زادها الله جمالاً وفتنة.

مررت بجانب ثانوية الخنساء للبنات، كانت مغلقة، ولا يوجد سوى الصمت يحرسها، ووصلت إلى بائع اللحم المشوي، كان يصف بضاعته ويرتبها لجلب الأنظار إليها، علّق قرون الفليفلة ووضع البقدوس والبصل، والفليفلة المفرومة أمامه، لقد بدت العربة كأنها كرنفال يضج بالألوان.

جررت رجلاي عند الفرن القديم الذي يبيع بأسعار مخفضة، فرأيت كتلاً هائلة من البشر ينتظرون دورهم، فأيقنت أن لا مجال للحصول على الخبز، فاتجهت يساراً باتجاه مقصف الرشيد، كان الفرن الذي يبيع بسعر أغلى شبه فارغ، فاشتريت حاجتنا، وتابعت طريقي، ووصلت مقصف الرشيد، كان الجزء الأمامي منه مهدماً، وتذكرت الليالي التي كنا نسهر فيه أنا وخليل وشعيب والبيطار تلك السهرات التي أذكرها تماماً، والتي هي بحاجة إلى كتابة من نوع جديد.

انحرفت إلى اليسار باتجاه دوار الساعة، كان الناس متجمهرين حوله، وأكثرهم قد صعدوا إلى منطقة الساعة وبعضهم ما زال يمط رقبته ليتفرج، أسرعت إلى المكان ومططت رقبتي، فلم أتمكن من الرؤية بسبب الزحام الشديد، عالجت نفسي قليلاً، أنا والخبز الذي معي، ودسست نفسي، وضعت رأسي بين شُقين، جسد من اليمين وآخر من اليسار، لكنني لم أتمكن من رؤية شيء سوى الزحام، ثم دفعت بعض الأجساد قليلاً كي أتمكن من رؤية هذا الشيء الذي ينظرون إليه، إلى أن انبلج المنظر واضحاً أمامي… كان هناك في الدائرة لبرج الساعة ثلاثة رؤوس مقطوعة، اثنان في مواجهتي، ورأس آخر باتجاه الشرق، الثلاثة تبدو على محياهم الهدوء والطمأنينة، كأنهم نيام، ربما هم من أهل الكهف، ولكنهم لم يستيقظوا بعد، وفي أسفل برج الساعة هناك ثلاث جثثت مرمية أرضاً، كان الذباب يمتصّ منها غذاؤه، تساعده في ذلك نحلتان، إنهم يرتدون ثيابهم العسكرية، وهناك صفحة كبيرة موقعة باسم: دولة الخلافة الإسلامية في الرقة والموصل، وتحتها مكتوب أسماء الذين غضبت عليهم دولة الإسلام فعاقبتهم بقطع الرؤوس.

ازدادت الزحمة عند برج الساعة، وذلك بسبب خروج التلاميذ من المدرسة القريبة، كانوا يصرخون بـ هيه، ويلتفون حول الجثث، وبعضهم أخرج الموبايل وصار يصوّر الرؤوس في البداية ثم الجثث، ليريها لأهله، ولأصدقائه الذين لم يتمكنوا من رؤية هذا المنظر، صرت أرتجف وأحسست بأنّ معدتي تريد أن تدفع بالطعام إلى الخارج والماء، رغم أنني لم أكل شيئاً ، ابتعدت عن المكان متوجهاً في الطريق ذاته الذي أتيت منه، كانت سيارة برتقالية اللون تذيع الأغاني الدينية التي تحض على الجهاد، وبطولة الصحابة الأكارم وتذيع من فترة إلى أخرى أخباراً ساذجة.

عند الدوّار في شارع 23 شباط، كان شرطي سير، مهلهل الثياب، ذو ذقن ومسدس، يتأبط به، يشير بيديه ورجليه ورأسه، تابعت سيري وأنا أحمل الخبز، فشاهدت دكاناً يبيع الثياب من سراويل وقمصان، وبيوت مسدسات توضع بشكل متصالب على الصدر، وبيوت قنابل ورصاص كثيرة ومتنوعة، وكان في الداخل ثلاثة من أتباع عاصمة الخلافة، واحد أشقر، وواحد أسود، وواحد وطني، يساومون البائع على أشياء اشتروها من عنده.

وصلت إلى بائع السودة، فوقفت عنده، واشتريت نصف كيلو وراح يشوي لي إياها، وكنت لا أزال أتذكر خروج الأولاد من المدرسة وصراخهم بصوت .واحد، هيه.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن فيصل خرتش

فيصل خرتش
فيصل خرتش روائي سوري مُقيم في حلب، حائز على جائزة نجيب محفوظ للرواية عام 1994. صدرت له تسع روايات: موجز تاريخ الباشا الصغير (1990) والتي مُنعت من التداول في سوريا، تراب الغرباء (1994)، أوراق الليل والياسمين (1994)، خان الزيتون (1995)، مقهى المجانين (1995)، حمّام النسوان (2000)، مقهى القصر (2004)، شمس الأصيل (2008)، ودوّار الموت بين حلب والرقة (2017)، إضافةً إلى عدد من المجموعات القصصية، منها: الأخبار (1986)، وشجرة النساء (2002). وله مسلسلان تلفزيونيان، وفيلم سينمائي عن روايته (تراب الغرباء) من إخراج سمير ذكرى وحاز على جائزة أفضل فيلم سينمائي في مهرجان القاهرة عام (2000) وهو عن المفكِّر عبدالرحمن الكواكبي. كما فاز فيصل خرتش، بجائزة الطيب صالح (المركز الأول) عن روايته (أهل الهوى) عام 2018.

شاهد أيضاً

وحشية

١ ثمة ملاك، أو هذا ما نظنه لأنه يرتدي لباساً أبيض، ينشر حوله هالة نورانية، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *