الرئيسية » رصاص خشن » شهوات اللغة وشعرية الجسد في رواية “العطار” لنصر سامي

شهوات اللغة وشعرية الجسد في رواية “العطار” لنصر سامي

روعة سنبل  |

“يا سادة يا مادة، يدلنا ويدلكم على طريق الشهادة، سأحكي لكم فيما يلي حكاية جمال الدين العطار..” في حين تحيلنا هذه البداية إلى ما يشبه حكايات الجدات، ببناءاتها التقليدية، فإن الأمور سرعان ما ستبدو مع التقدم في القراءة مختلفة تماماً، إذ تتطلب رواية العطار( الآن/ ناشرون وموزعون 2019)، قارئاً يقظاً ومتمهلاً معاً، قارئاً لديه من سعة الصدر ما يكفي ليتقبل بين الحين والآخر أن تفلت منه خيوط الحكاية تماماً، أو أن تتباين الأصوات الساردة وتتداخل، أو تضطرب الأزمنة وتلتحم، قارئاً عليه أن يتحلى بذاكرة قوية، أو أن يمسك قلماً ليكتب وهو يقرأ.

خمسة فصول متباينة، من حيث الحجم، والتكنيكات المستخدمة، والتقسيمات المتبعة، وطبيعة السرد وسرعته، تشترك كلها في لغة مغرقة بالشعرية والمجاز، وتشترك أيضاً أنها ترسم معاً حكاية العطار، يسردها راوٍ يعلم كل شيء في حين لا نعلم عنه شيئاً، سوى أنه شخص قريب من العطار، يثق به هذا الأخير فيحكي له، يصمت الراوي طويلاً أحياناً ليتيح للعطار نفسه الكلام، فيتداول الاثنان السرد بما يشبه لعبة متعبة للقارئ، ولا تنتهي الرواية إلا وقد ظهر الكاتب أيضاً في الفصل الأخير “خواتم”، ليعلن بوضوح عن حضوره في الحكاية، حضورصريح باسمه، فنقرأ نصر سامي يقول: ” أما هذا النص فقد قرأته مرات بلا عدد في سنواتي الأخيرة، بعد سفر العطار، وعملت عليه لسنوات، ولم أنكره، ولهذا أنشره ذكرى للعطار وأهله”.

تبدأ الرواية من حيث انتهت حكاية صاحبها جمال الدين العطار، يقول الراوي في بدايتها: “حياته هادئة، ولا يقلقه إلا ما يعوده من حكايات ماضيه، بصاحباته وشخصيات كتبه الكثيرة، وزوجاته اللواتي نسي عددهن، وأولاده الكثيرين ورحلاته”، هذه الهواجس المقلقة من الماضي، هي بالتحديد مفاصل الرواية: حبيبات العطار في فصل “نساء في حياة العطار قبل الرحيل”، ثم شخصيات كتبه في فصل “طين الروايات وأبطالها”، ثم يأتي فصل “الرحلة” ليتناول زوجات العطار وترحاله، هذا الترحال الذي سيقذفنا أخيراً في بداية هذه المتاهة السردية من جديد، في الفصل الأول الذي يحمل عنوان “مقدمات أونهايات، لا فرق أبداً”.

نساء كثيرات يظهرن في الرواية، على طول فصلين مختلفين يمثلان مرحلتين متباينتين من حياة العطار، ما قبل الرحيل، وما بعده، وتختلف طبيعة هذا الظهور بما تفرضه ضرورات كل مرحلة، فقبل االرحيل، يبقى المكان شبه ثابت، بينما تعبر إحدى عشرة امرأة، يتوقف السرد مطولاً عند كل واحدة منهن في مقطع يحمل اسمها، ليؤرخ هذا الفصل لحياة العطار منذ لحظة انخلاعه من طفولته مع المرأة الأولى، ثم عبر مراحل انقذافه في ممالك الجسد، النسوة هنا مرسومات بدقة، ليس فقط على المستوى الجسدي بل على المستوى النفسي أيضاً، ويبدو العطار من خلال علاقاته المتعددة منشغلاً بالإجابة عن أسئلة كثيرة، تتعلق بلذائذ المرء الأولى، وبلحظات اكتشافه لعالم الجسد، وبالأجساد على اعتبارها أدوات للشعر وللمتعة. بينما في الفصل المعنون بالرحلة، يختلف تكنيك السرد تماماً، يبدأ الفصل بمقطع غريب يحمل عنوان “الحياة هي في مكان آخر”، وهو مقطع يُجمل الأشياء كلها بسرعة فائقة، تتعاقب فيه السنوات واالمدن والنساء بصورة متلاحقة، حتى الوصول إلى المحطة الأخيرة، ليعود الكاتب في مقاطع لاحقة ويتوقف محطات سريعة: مدينة مدينة، وامرأة امرأة، بسرد سريع لاهث، وبتكنيك يذكّر بأساليب تدوين الرحلات في المرويات الشفوية، تدخل الشخصيات وتخرج بسرعة فائقة، وتتبدل الأمكنة باستمرار عبر مدن كثيرة منسية في أفريقيا، فيبدو الفصل حافلاً وعنيفاً: فساد وجرائم قتل وتجارات ممنوعة وسجون، لا يهتم هذا الفصل  برسم شخصيات واضحة للنساء، بل يكتفي بملامح جسدية خاطفة، وإن كان الحب والنساء في الفصل السابق مفاهيم حاضرة بصفتها أدوات للمتعة، فالأمر مختلف هنا، يقول العطار “الحب يعني عندي تجيبي لي أولاد، حين تملئين لي البيت أولاداً أعرف أنك تحبينني”، وإن كان العطار قبل الرحيل مشغولاً باكتشاف الجسد، فالعطار المرتحل هنا يبدو معنياً بترك أثر خلفه، زوجات كثيرات وأبناء لا يعلم لهم عدداً.

يحتفي العطار باللغة تماماً كما يحتفي بالجسد، فتصبح اللغة بأصواتها، وانحناءات حروفها، كياناً مغوياً وشهياً، متورّطاً في فعل المتعة، “أي حروف اللغة تشبهين” يسأل العطار واحدة من حبيباته، يطلب من إحداهن أن تقرأ له بلكنتها الغريبة، يتلو نصوصاً على غيرها، يتدارس مع أخرى شروحات للشعر القديم، ويدوّن نصوصاً كاملة على جسد هدى زوجته.

يتغير العطار كثيراً في ترحاله، فنراه معلّماً، ومهرّباً، إمام جامع مرة، وحارس مبغى مرة، إسلامياً متشدداً أحياناً، وقاتلاً إن اقتضى الأمر، يتغير العطار كثيراً، لكنه يبقى دوماً العطار الكاتب، الشاعر والسارد، والذي تفرد الرواية عنه كاتباً فصلاً  بديعاً وعميقاً، يتناول بنظرة فلسفية فعل الكتابة، وعلاقتها مع الرسم والنحت، وجدلية التشابه بين الفن وفعل الخلق، ويبحث في دراما المبتكِر مع شخصياته الطينية أو السردية التي تشب عن الطوق أحياناً، ومما يلفت في هذا الفصل تضمينه ما يشبه عناصر سيرية من حياة الكاتب نصر سامي نفسه، واستخدام عناوين مؤلفاته الحقيقية، لتنطبق في لحظة ما الكيانات الثلاثة معاً: الكاتب والراوي والعطار، بما يشبه خدعة سحرية، تترك القارئ محتاراً ومفتوناً معاً.

حكاية العطار سمتها الترحال، يقترفه بحثاً عن الخلاص،  لتثير الرواية سؤالاً جوهرياً: هل بإمكاننا أن ننجو من ماضينا؟ يقول العطار: “كيف أغمد سكيني في قلب الشر، وأستلّ السواد العقيم، وأرتاح؟ أنا مسافر لمّا أصل إلى بلدي، وسفري سيطول، إنني أطلب الخلاص، الخلاص يا أورميلا، الخلاص!  لكن كيف؟”.

رواية كهذه لا تحفل كثيراً بإغواء القارئ ليلاحق خيوط حكاية، ولا بانتزاع دهشته، بل تحفل فقط بنحت هذه الشخصية المحيرة، العطار الذي تورط بالشر وبالخير معاً، وأدى الدورين كليهما بصدق وإتقان، العطار الذي سيصعب على القارئ ألا يحبه، كما سيصعب عليه أن ينسى صرخاته: “أنا جمال الدين العطار، الوحيد، البعيد كسماء.. أنا المحروم من نبع يتدفق ليجرفني نحو حدث حقيقي واحد، أنا العائش في السرد، المفتون بكل غائب وبكل لا مرئي وبكل فاسد.. أعرف أنني لا أتقن إلا فن الحكي، أما الفعل فليس فيه ما يغريني.. أقف عاجزاً ومذهولاً وربما مغيباً عن كل شيء، لكنني قادر على الصراخ، أشعر أن الصراخ مهنتي، ولا أفعل أي شيء، بل أكتفي بحكاياتي الرائعة وشهواتها المتخيلة”.

نصر سامي: شاعر وروائي ورسام تشكيلي وباحث من تونس، له العديد من الكتب في الشعر، والرواية، والمسرح، وأدب اليافعين.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

وحشية

١ ثمة ملاك، أو هذا ما نظنه لأنه يرتدي لباساً أبيض، ينشر حوله هالة نورانية، …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *