آمنة مامو |
عندما طُلب من غاستون باشلار أن يصف المبدأ الذي انطلق منه في رؤيته الفلسفية للأدب والشعر، وصف هذا المبدأ مجازاً في كتابه “جمالية المكان” فقال: إنه مبدأٌ على سبيل هيا (نقرأ الحجرة) أو (نكتب الحجرة)، هيا (نقرأ البيت) أو هيا (نكتب النار)… إلخ.
وكذلك سنَعمد في هذا المقال إلى نوع من التشريح النفسي لبنية السرير فنقول هيا (نقرأ السرير) أو (نكتب السرير)، وهذا يعد أفضل توصيف لشرح ما المقصود بالمنهج الظاهراتي في قراءته للموضوع المرصود.
إن ظاهراتية السرير التي سنستخدمها هنا، هي بالضبط أن يتوقف القارئ للحظة، يضع المقال جانباً، يتوقف عن وصفك لسريرك أنت، لينتقل إلى سريره هو، المنهج الظاهراتي هنا هو رصد السرير وهو معلّقاً في وعينا ووجداننا، أن نستعيد (كما يقول باشلار) إحساسنا الأولي والعفوي عن هذا الشيء الرحب الذي يدعى “السرير” أن يمر وعينا وبسرعة على كل الصور المخبئة في ذاكرتنا والتي تخص السرير، لنشم منها معنى قراءة السرير، وكتابة السرير.. إنها محاولة ممتعة بالدرجة الأولى.
إنه مقال يقوم في الأساس على التفنن في تحويل الشيء “Thing” إلى نص، ومن ثم قراءة هذا النص بلغة ليست فلسفية بمقدار ماهي قراءة سيكولوجية تقوم على قياس درجة حياة الأشياء بمقياس منهج التحليل النفسي Psychoanalysis إنها محاولة للقبض على الحياة الجوانية ولكن هذه المرة ليس للأشخاص بل للأشياء التي تعد من الجمادات الصامتة. طبعاً ليس المقصود هنا أنسنة الأشياء بمقدار ما هو ضبط وتشريح في الصلة الحميمية التي تقع في الوسط، أي في العلاقة بيننا وبين الشيء.
في هذا السياق الباشلاري سنقرأ ” السرير” هذا الأثاث الضخم والمسطح الجالس في منازلنا، فهذا النوع من الدراسات يقوم على المنهج الذي رسم ملامحه غاستون باشلار وتحديداً في كتابيه “جماليات المكان” و “جماليات الصورة”، وكان يُفضّل دوماً أن يسمي هذا النوع من الدراسات بـ (بحثٌ في صور الألفة) أو (دراساتٌ في تاريخ الخيال) أو (دراساتٌ في ظاهراتية الروح).
ولكلمة الروح عند باشلار وقعها الصوتي والنفسي الخاص، ولها استخداماتها الخاصة كمفهوم مركزي في النص الفلسفي، فهي ليست دخيلة عليه، يقول باشلار: إن الوعي المتصل بالروح هو استرخاءٌ، وأقل قصدية من الوعي المتصل بالعقل، وإن كلمة “الروح” خالدة لأنها مولودة من تنفسنا، بل إن الأهمية الصوتية للكلمة وحدها يجب أن تجذب انتباه ظاهراتي الشعر، فكلمة “الروح” يمكن تلاوتها شعرياً باقتناع يجعلها تشكل التزاماً للقصيدة كلها.
وفي هذا السياق سنتناول السرير وفق ثلاث اعتبارات أساسية:
1 ـ السرير ـ صور الألفة والحماية.
2 ـ السرير ـ فعل الانطواء والالتفاف الجسديان.
3 ـ السرير ـ المقام ورعشة السقوط من علو.
السرير ـ صور الألفة والحماية:
يمكننا أن نفهم المقصود بصور الألفة والحماية ضمن الرؤية الباشلارية من خلال قوله: إن كل مناطق الألفة والحماية موسومةٌ بالجاذبية لأن وجودها هو الوجود الهنـيء (من الهناء).
فبعض الأمكنة والأشياء تمتلك قيمة يسميها باشلار (قيمة الحماية) وهي تظهر عندما ننجذب نحو مكان ما أو شيء ما لأنه يكثّف لنا الوجود بأكمله في حدودٍ تتسم بالحماية التي يمنحنا إياها، والألفة التي تلفه.
فجمالية المكان والأشياء بالنسبة إلى باشلار لاتنبع فقط من شكلها الفني والهندسي ولونها..إلخ ولكنها نابعة من قيمة الحماية والألفة التي تمنحنا أياها، فالموضوع هنا ليس فيزيائي بل هو نفسي يخصُ شعورنا بالآمان والحماية والمؤانسة.
فصورة البيت على سبيل المثال يصفها باشلار بأنها هي ” طوبوغرافية وجودنا الحميم ” ويكثف باشلار قيمة الحماية من خلال الجدران، فيعطي للجدران قيمة وظيفيّة على المستوى النفسي، من حيث أن الجدران تعطينا مزيد من الشعور بالآمان والحماية فيقول: أينما لقي الإنسان مكاناً يحمل أقل صفات المأوى والحماية سارع بخياله إلى بناء جدران مريحاً نفسه بوهم الحماية.
وهنا بالضبط يمكننا أن نقرأ “السرير” في مقابل هذه القراءة الباشلارية فنقول إذا كانت الجدران تحمل قيمة الحماية والآمان والحدود عند باشلار فإن مايمنح السرير بالمقابل هو قيمة الراحة والإنسيابية والإنطلاق والتحرك الحر هو بالضبط انعدام الحدود فيه، وبمعنى آخر إذا كان البيت (في الفلسفة الباشلارية) هو المسيج والمحمي والمغلق فإن السرير هو ذاك الانفتاح الحر داخل هذا البيت المسيج والمحاط بالحدود (الجدران).
هنا يغدو السرير هو الإنفتاح على الداخل، في حين يكون البيت هو الإنغلاق على الخارج، فالسرير بجهاته الأربع المفتوحة وغير المسيجة هي استعادة وتعويض عن الخسران الحاصل في رفع تلك الجدران الأربع حول البيت، إنه انفتاحٌ بسيط في قلب هذا الانغلاق الكبير، إنه فسحة حرة للجسد والروح لاستعادة قيم الطلاقة والإنسياب والانفلات من حدود الأثاث والأماكن المهذبة.
لقد كانت الغاية عند غاستون باشلار من هذه الحفريات في البنية النفسية للمكان والأشياء هي فهم تكويننا العقلي وتحليل النفس البشرية وتتبع حقب تطور تاريخنا البشري حيث يتم رصد ذلك الانتقال الحاصل من المستوى البسيط الممتد الخالي من الزوايا والتعرجات والإنثناءات إلى المستوى المعقد، في حين ان غايتنا من تحليل الشيء (السرير هنا) هي ليست لفهم تكويننا العقلي بقدر ماهي لغاية استحضار ماغاب عنا كأهمية غائبة أو منسية، فالغاية هنا إعادة تنبيه ووخذ وعيننا المشغول عن قيمة هذا الشيء او ذاك لاستجلابه مرة أخرى ووضعه في مناطقه الحميمية الأصلية التي تكسبه مزيداً من صفة الحماية والمؤانسة والكرم في العناية التي غفلنا عنها في ظل تعقيد الحياة ورداءة خياراتها، هي محاولة لكي نفهم حيزنا الصغير الذي نعيش فيه قبل ان نفهم الكون ذاك الحيز الكبير الذي لا طائل من الإحتماء بين جدرانه المتباعدة والباردة.
السرير ـ فعل الانطواء والالتفاف الجسديان:
الانطواء والالتفاف الجسديان هما التكور على الذات ومحاولة الاختباء داخل حدود الجسد، يقول باشلار: إن الإلتفاف والإنطواء الجسديان ينتميان إلى ظاهراتية “فعل يسكن” وإن الذين تعلّموا أن يتكوروا في الزوايا والأركان براحة هم الذين يستطيعون السكنى بحدة.
مقابل فعل الانطواء والالتفاف البشلاريان يلعب “السرير” الدور المقابل فهو الفسحة الرحبة التي صُنعت لتفرد عليها جسدك وتدع عن هذا الجسد سياسة الحدود وقواعد الجلوس التي يتم دفع الجسد نحوها مرغماً من قبل باقي الأثاث، فالكرسي والمقعد وأريكة غرفة الضيوف صُممت خصيصاً لوضعية الجلوس ولإعطاء الجسد مزيداً من التهذيب الاجتماعي والالتزام بقواعد الحركة وقوّلبة هذا الجسد الحر وضبطه في إطار الوضعيات اللبقة وليست المريحة، فأنت تجلس على المقعد أو الكرسي مستقيم الظهر، تضع يداك إلى جانبك، وجهك يتجه نحو الآخر، قدماك على الأرض، حيث يصعب وأنت تجلس على كرسي مكتبك أن تدع جسدك يتجاوز التصميم، فننصاع، ونجلس “كمحترمين”.
أما السرير فتفرد عليه جسدك وتترك لهذا الجسد كامل الحرية في أن يرسم انحناءاته كما يشاء، ويتخذ أي وضعية يحب، فنجلس على السرير جلوساً كاملاً، أو نصف جلوس، نتمدد، نستخدمه للنوم، للأكل، للقراءة، للكتابة، للدراسة.
فإذا كانت الأقفال والخزن وأدراج المكاتب تمثل عند باشلار عتبة سيكولوجية وشواهد شديدة الوضوح على الحاجة إلى السرية، الانغلاق، الاستدراة، أماكن الخفاء، فإن السرير بالمقابل هو البوح، تعرية المستور، الخروج من الأبعاد والزوايا والجدران والأقفال، إنه البياض والمساحة المفتوحة الأبواب، التي تلغي هذا الإنغلاق بضربة واحدة. هنا يغدو التمدد على السرير هو التمدد تحت أشعة الشمس أو على سطح البيت الداخلي.
السرير ـ المقام ورعشة السقوط من علو:
البيت عند باشلار هو تجسيدٌ للعامودية فهو يرتفع نحو الأعلى إنه يُميز نفسه بعاموديته، إنها عامودية تتجسد عند باشلار من خلال الإستقطاب بين القبو والعليّة (الوضوح ـ والسرية ) بالمقابل يغدو السرير هو تجسيدٌ للأفقية فهو أكبر أثاث المنزل، ويحتل هذه المساحة الأفقية الكبيرة في البيت، إنه لايقف في زاوية من زوايا البيت محاولاً تقليص مساحته في ركن ضيق، بل يستلقي على ظهره ويَصرُّ على الإستلقاء والتمدد وفرد سطحه كاملاً للعلن.
السرير يلعب مع مفهوم “المقام” بطريقة جداً جميلة وملفتة فكل ماهو مرتفع عن الأرض يحظى بالمقام العالي في النفوس (المذبح، عرش الملك، خشبة المسرح، القُداس، المنبر، المصطبة التي يقف عليها الأستاذ) دائماً الأماكن العالية مخصصة فقط لكي يرتقي عليها الأشخاص الكرام في المجتمع، ويبقى لها في نفوس البقية رغبة بالصعود عليها والشعور بذلك الفرح والسمو والقيمة الإضافية التي تمنحها لمن يقف عليها.
من هنا يغدو السرير هو المقام العالي للبيت، منصة الأحلام، عرش الملك، مسرح احتفالاتنا يبقى للسرير المقام العالي في نفوسنا منذ أن كنا أطفالاً فنحن من خلاله نرتفع عن الأرض، وننجو، وكأننا نشعر بالنجاة من السقوط في نهر عابر أو وادي سحيق في الأسفل، عندما نصعد إليه نتحرر من السفلية بكليتها، نصير في الأعلى الأكثر آماناً. منذ أن كنّا أطفال ونحن نتنافس في الصعود إليه ونفرح إن كان لنا نصيبٌ من النوم عليه للننجو من سفلية الأرض، هناك شيءٌ يبهرنا بهذا المقام العالي.
حتى شعورنا بالسقوط في النوم والذي يلازمنا في كثير من ليالينا يخبرنا أن كل نوم هو نوم على سرير عالي، عندما ننام فإننا نصعد إلى سريرنا الجواني العالي ولذلك نسقط مرات ومرات في نومنا، وكأن النوم هو الارتفاع، ووخذة الحلم هي السقوط من ذاك العلو الشاهق لنصحو.
غالب الأُسَر تُحَرِّم على أولادها الدخول إلى غرف النوم والجلوس على السرير إلا لغاية النوم. الأُسَر الدافئة هي التي تحول أسرّتها إلى قاعة اجتماعات للمزاح والضحك وتمضية وقت ممتع فوق هذا الركن العالي والمريح والطري والدافئ والذي يتسع للكثير من الأشخاص.
سيءٌ أن تتحول الأسِرّة في بيوتنا إلى مصاطب طرية للنوم، الأسِرّة بيت دافئ داخل بيت، وجميلةٌ تلك المهرجانات والاحتفالات وليال السمر مع الأصدقاء على الأسِرّة (شخص متمدد، الآخر متكئ، ذاك يتخذ وضعية التربع ليضع الرابع رأسه على فخذه..الخ).
فقط قَرّبْ التلفاز من سريرك، حولّه لغرفة جلوس، أفرد عليه أوراقك، ادّرس عليه مستلقياً على بطنك، دع عنك همَّ المساحة فهو يتسع، دع عنك همِّ أن يراك أحد فهو في غرفتك وليس في الصالون (ليته كان في الصالون).
مجلة قلم رصاص الثقافية
يدعونا باشلار قائلاً و بكل عفوية (دعونا نقرأ البيت او السرير في مقالنا هذا )و كأنه يقول ( دعونا نقرأ الشجرة) متناسياً تماماً ان للسرير أنثروبولوجيا على عكس تلك الأخيرة أي الشجرة. و بإحتمائه بالأشياء ذاتها و الإحالة على بديهية و عفوية السيكولوجيا و ليس الفلسفة كما يدعي فأنه يعتقد انه قد أُعفيَ من الإجابة على السؤال التالي و هو ( إن كان يمكن قراءة السرير كنص فمن هو الكاتب لمثل هكذا نص؟ ). انه يدعونا الى وعي بالإشياء يشبه الإسترخاء نوعا ما و كأن الأشياء قد وضعت هناك بالمكان وعلى هذا الشكل بالتحديد, بكل عفوية . اي بعبارة اخرى و إذا ما أردنا ان نستعير لغة فوكو , فأن باشلار يعتبر ان الأشياء موجودة هناك بعفوية لتحاكي داخلنا السيكولوجي دون ان يكون من خلفها إرادة قوة قد صنعتها على هذا الشكل بالتحديد و ليس غيره, وهذا الخطأ الباشلاري هو أرث الفلسفة الأورببة(الذي لم ينجو منه حتى فوكو بالطبع لأن فوكو هو إمتداد لهذا الإرث و إن أدعى انه يحفر معرفيا ليفضح مثل هكذا إرث) برمتها حيث ان مثل هذه الفلسفة تحاول ان تستخلص المطلق من أشياء ليست مطلقة بل هي عبارة عن أشياء قامت الحضارة الأوربية بفرضها بالقوة على انها مطلقة وعلى انها الأشياء بذاتها كأدعائهم ان حقوق الطفل مطلقة وهي في الحقيقة نسبية تختلف بين الدول و لايمكن تعميمها حتى انهم الآن بالغرب قد بدأ يتفاجأ بعض العلماء من ان أطوار نمو الطفل التي يحددها بياجيه على انها مراحل نمو ابستمولوجي مطلق لدى أي طفل بالعالم, هي ليست كذلك بل هي نسبية. فكيف لبشلار ان لم يعر إهتمام للإختلاف الأنثروبولوجي للأشياء ان يقرأ السرير الموضوع في خيمة البدوي على سبيل المثال , ذلك السرير الذي لايمتلك العلو الذي قرأه باشلار بسريره البشلاروي بل هو ( أي السرير البدوي) بالعكس أقرب مايكون للأرض بقربه منها و مثل هكذا سريرلا يمتلك المفارقة و التباين مع الأشياء المحيطة به فهو أي السرير البدوي بالكاد يمكن تفريقه عن الكنبة(الأريكة) المحيطة به فهي بحد ذاتها أشبه بالسرير منها الى الكنبة, بالتالي في خيمة البدوي لانستطيع ان نجد المفارقة التي خلقها باشلار بين السرير و الكراسي و الكنابات. و كيف لبشلار ان لم يعر أهتمام للأختلاف الزمني للاشياء ان يقرأ السرير الذي يتم فتحه بالمساء من أحد الكنابات العصرية ليعاد طيه بالصباح ليتم إزالته تماما كما لو انه لم يكن موجود بالمساء. وكيف سيتمكن باشلار من قراءة الأشياء في ظل ما بعد الحداثة اذا لم يدرك ان هناك إرادة قوة مابعد حداثوية تصنع الأشياء كما تريد, حيث تماهت الأشياء المابعد حداثوية و تداخلت بشكل مفزع مرعب و لم يعد فيها هذا التمايز الذي يكسبها خصوصيتها و حميميتها فأصبح الراديو و الهاتف و التلفاز و الكتاب و الحاسوب كلها بجهاز واحد صغير أسود تضعه بجيبك و تمضي الى عملك. أي أعود و أقول كيف له ان يفسر او يفضح هذا التغيير الأمبريالي المابعد حداثوي (و الحداثوي من قبله)للسيطرة على الأشياء إذا ما أستبقى على هذا الوعي الإسترخائي تجاه الأشياء. و حيث كما قلنا للتو ,أصبح سريرك بالمساء هو نفسه كرسيك في الصباح الذي تعيد فتحه بالمساء من جديد على شكل سريراو تزيله تماما داخل الجدار او الخزانة. ذلك انه لم يعد السرير هو هذه الكتلة البيضاء التي لايمكن التخلص منها القابعة في وسط الغرفة بل عل العكس أصبح السرير هو الأكثر إزالة في البيوت العصرية حيث يطوى الى الجدار ليسحب بالمساء حتى يعود كسرير وهكذا دواليك.
أخيرا أقول انني بالطبع قمت بمحاورة باشلار كما تمت قرائته في المقالة بين أيدينا وليس بالرجوع الى نصوص باشلار ذاتها .
أشكر الكاتبة على هذا المقال العميق الهادئ وأقول انه على الرغم من هواة قراءة الكتب كاملة و ليس المقالات إلا ان المقال أرغمني على التوقف عنده لأنه ما أحوجنا ان نؤرشف نفسا , كل تفاصيل حياتنا اليومية التي إلتهمتها الحروب في بلدان و الحياة الروتينية في بلدان أخرى تلك التفاصيل الناعمة التي تكسبنا القدرة على الحياة.
شكرا لهذا التأني في قراءتك لمقالي البسيط والذي كان ع سبيل التفلسف الممتع لا اكثر ، إنه تمرين ممتع لملكاتنا
أما عن قولك – بأن مقالكِ للتفلسف الممتع لا أكثر و تدريب ملكاتنا- فأقف قليلا لكي أقول و هل في فعل التفلسف بشكل عام أكثر من ذلك؟انا بأعتقادي أي فعل تفلسفي مهما أدعى انه مشروع للحقيقة لايستطيع ان يرتقي و لن يرتقي الى مستوى أكثر من كونه متعة و تدريب لملكاتنا و لا حتى ديفيد هيوم نفسه المشهور بالتأني او دريدا, يستطيع ان يرقى الى أكثر من كون تفلسفه هو للمتعة العقلية فقط لاأكثر و حتى ان أدعى غير ذلك. بالتالي فأن حتى ردي ((((( المتأني )))) على مقالك لايعدو كونه متعة عقلية ((((لا أكثر)))) فلا تفلسف غير للمتعة أو ما تسميه انت التفلسف الممتع
و إلا ان لم تكن الفلسفة هي بالأصل عبارة عن مشروع للمتعة و لتدريب الملكات و ليست مشروع للحقيقة (كما كانت تدعي مختبأة تحت ستار العقل و التأني) لما تحولت الى فلسفة عدمية في نهاية المطاف في مابعد الحداثة , عبثية بالغرب و انتقائية وتذوقية بالشرق, بل لأقتربت من الحقيقة وليس العدمية.
و بالمقابل أتوقف قليلا أيضا عند شيء ثاني و هو وصفك لمقالك ببكلمة بسيط : فأطلاقنا كلمة بسيط على مثل مقالك ليس إدعاء بالبسيط بل يحتاج الى تفنيد معقد جدا.
أتفق معك آمنة إن انتي قلتي انني كتبته بروح بسيطة . فأنا هنا أقول نعم ان روح البساطة و الانسيابية تعبق داخل النص بكل معنى الكلمة,حيث ان أي قراءة (((((متأنية)))))) لمقالك تستطيع ان تدرك ذلك.
و لكن ان نقول ان المقال بحد ذاته بسيط فهنا انا لا أتفق معك أبداً.
و هذا يذكرني بحادثتين أذكرهما لأفند هذه الكلمة ((( البسيطة )))) التي أطلقتها على مقالك.
حيث يروي لنا الدكتور عبد الوهاب المسيري بأسلوبه الرائع المليئ بالمزاح و الحيوية قصة مع أمرأة كانت طيبة جدا و تستضيفه هو و أصدقائه و لكنها كانت علمانية وتحاورهم دائما بحماس و تدافع عن فكرة ان العلمانية لم تمنعها من ان تكون متدينة و ان تصلي و هو يحاول ان يثبت لها ان العلمانية نظام مادي مغلق شامل هدفه ليس فقط فصل الدين عن الدولة كما نجده في تعريفاتها الجامعة الشاملة التسيطية, بل هي رفع القداسة عن ظاهرة الإنسان ككل أي فصل الدين عن الإنسان نفسه و ليس فقط عن الدولة و ان كلامها متناقض . ولما عجز عن إقناعها قال لها جملته الشهيرة ممازحاً إياها قائلاً:
( ياستي انتي حا تدخلي الجنة ولكن أفكارك هي حتدخل النار) ليفهما مجازياً بأن ما تقوم به لا ينطبق مع ما هي تحمله من أفكار . فأنا أقول هنا أيضا بأن روح الكتابة في مقالك هو البسيط اما ان نقول عن مقال فلسفي مثل مقالك و مثل لغته و هيكليته انه بسيط ( في حال أتفقنا على مفهوم البساطة كما أردته انتِ ) فهذا لا يمكن قبوله بل هو قفز على المعاني و تستر و رائها عن غير عمد . فأنا أرى ان مقالك كهيكيلية و مضمون لايقل ((((( تأني)))))) عن ردي المتأني على مقالتك بل هو أكثر تأني من ردي على مقالتك.
و كلمة (((بسيط))) تذكرني بالحادثة الأخرى عندما حاول فوكو ان يؤسس لمقال عن الجنون مدعيا انه يستطيع ان يكتب عن الجنون على عكس ديكارت الذي كتب مقال عن العقل . و كان من دريدا ان رد عليه قائلا : بأن إقتصاديات اللغة تمنعك من ذلك حيث ان الذي يباشر الكتابة فأنه يحمي نفسه من الجنون لحظة ان يشرع بالكتابة , لأنه و بإختصار فأن المجنون لا يكتب و ما ان تشرع بالكتابة , وان كانت كتابة عن الجنون ذاته, فأنت تعلن العقلانية بفعل الكتابة نفسها. ويكمل دريدا ليقول بأن كل من ديكارت و فوكو يشتركان بالعقلانية وان كان يدعي أحدهما انه يكتب عن الجنون . فهما يشتركان بالعقلانية لمجرد شروعهما بالكتابة…. فلا يستطيع احدنا بمجرد انه يعلن ان مقاله هو عن الجنون أو البساطة(طبعا مع مراعاة إختلاف الجنون عن البساطة بالدرجات) ان يثبت لنفسه البساطة. فأنا أقول على غرار دريدا ان الشروع بالكتابة , و ان كانت كتابة بسيطة أو كتابة عن البساطة, هو بحد ذاته يخرجنا من البساطة فلا يكتب الشخص و هو بسيط لأن إقتصاديات اللغة هي التي تحتم علينا اللابساطة. فمن هو بسيط بحق لايكتب.
فلا مقالك أبسط من ردي لأننا كلانا شرعنا بالكتابة و الكتابة خروج عن البساطة. ولا ردي أقل متعة من مقالك لأن كلانا نتفلسف والتفلسف هو فعل متعة فقط لا حقيقة.
واذا أردنا الحقيقة فلنكتفي بالصمت, اما إذا أردنا تدريب ملكاتنا الممتعة فلنرسل الردود لبعضنا البعض, لنا الخيار.هذا شعار الفلسفة هي للمتعة ((((((لا أكثر))))). هي مثلها مثل الإستماع لقصيدة أو مقطوعة موسيقية أو متابعة مباراة التنس.
أو هي كمن يبحث عن نظارته و هي فوق عينيه . فمن أراد ان يأخذ نظارته فليلتقطها بكل بساطة من فوق رأسه و ليتوقف عن البحث. أما من أراد ان يدرب ملكات بحثه ((((الممتعة))))) فليشرع بالبحث عن نظارته بالغرفة خارج رأسه .
“في بعض الناس بفوتك بالحيط بثقافته التجميعية و حديثوا يلي من كل بستان زهرة … علواه شي غنمات تاكل هي الزهرات و نخلص ”
هذه عبارة كتبها صديق لي معبر عن موقفه من تعليقاتي على هذه الصفحة بعدما قرأها منذ يومين.
وانا بدوري أرد على صديقي هذا لكي أشرح للقارئ الذي قد يمر على هذه الصفحة و يقرأ تعليقي و الذي قد ينتابه نفس شعور صديقي .
أقول ان صديقي هذا وقع بنفس المغالطة التي كنت أناقشها مع الكاتبة عندما هي قسمت الفلسفة الى متأنية و أخرى للمتعة . و انا بدوري ناقشتها بان مثل هذا التقسيم غير موجود لأن الفلسفة هي فقط مشروع للمتعة و لايوجد فلسفة متأنية .حيث سقط القناع عن عقلانية الفلسفة في عصرنا الحالي حتى و ان ما تزال بعض الفلسفات تدعي التأني فأن هذا لايغير من حقيقة ان كتابة او قراءة الفلسفة لا تعدو أكثر من كونها مثلها مثل متابعة لمباراة كرة المضرب مثلا.
و صديقي هنا أرتكب نفس المغالطة عندما أعتبر ان الثقافة نوعين الأولى ثقافة متسقة مع ذاتها وواضحة وثقافة أخرى متداخلة زهورها من كل بستان (ثقافة جمع تربح).
أقول ان الثقافة بالمجمل هي مشروع انتقائي هي فن الإنتقاء و البعثرة و التجميع. اما الوهم بوجود ثقافة متسقة مع ذاتها فهذا أشبه بتصور مربع دائري. فلقد اكتشفت ثقافة ما بعد الحداثة وهمها الذاتي (المتعلق بفكرة وجود نص ثقافي متسق مع بعضه ) و أعلنت الفضيحة الكاملة على يد التفكيكين الذين وضحو للعالم بأنه لا يوحد نص متسق مع نفسه او مع الحقيقة . أي بعبارة أخرى اوضحوا ان النص ما هو إلا تناص من عدة نصوص يشكل بدوره نص جديد أي بعبارة أخرى أن أي نص بالعالم ما هو إلا عبارة عن تناص او بعبارة صديقنا تجميع لعدة زهرات من عدة بساتين. فالنص لا يتشكل الا بالمغايرة مع نصوص أخرى او أحيانا بالإقتباس من نصوص أخرى . حتى النص الخاص بتعليق صديقي نفسه يشمله هذا. فتعليقه نفسه فيه من الأنتقائية أكثر مما هو يتوقع. فالثقافة بكل انواعها هي كلعبة الشطرنح ينتقي كل لاعب ما يناسبه من بين مئات النقلات ليلعبها لكي تحقق له ربح خاص.
كان يكفي لصديقي إذا هو أراد ان يعبر عن مدى اللخبطة في نصي ان يكتفي بقول ان نصي ثقافي دون قوله ان نصي ثقافي انتقائي و تجميعي لأن كلمة ثقافي لوحدها تعني في طياتها معنى الانتقائية والتجميع فكل ثقافة, مهما ادعت لنفسها بأنها ثقافة متسقة او مقاومة او تحررية او ثورية الخ من العبارات الفارغة, هي عبارة عن ثقافة تحمل في طياتها عدة زهرات من كل بستان(ثقافة جمع تربح).
و سوف ألخص لصديقي الذي يبحث عن قراءة مريحة و أقول له:
ثقافة بكل انواعها = ثقافة من كل بستان زهرة(ثقافة جمع تربح)
فيكفي ان توصف أي نص بأنه نص ثقافي حتى تعبر عن مدى لخبطة النص دون ان تضطر لإضافة عبارة مثل ثقافة كل بستان زهرة او ثقافة جمع تربح لان الثقافة هي بحد ذاتها مشروع قائم على جمع تربح ليتحقق بكونه مشروع ثقافي. ذلك ان تعليق صديقي يدل على انتقائية هو الآخر حيث ما يزال صديقي ينتقي عباراته من الفلسفات الحداثوية التي تمتلك وهمها الخاص بان هناك ثقافة متسقة مع ذاتها و أخرى تجميعية . كما ان النزوع الى تراشق التهم الثقافية مثل قولنا (ان ثقافتك هي من كل بستان زهرة او ثقافة حمع تربح) هو من أحد الأعراض الواضحة على الانتقائية الثقافوية(اذا ما أستعرنا عبارة صديقي نفسها) الشرقية . و اخيراً أقول ياترى من هم هؤلاء الذين قد يكونوا مؤهلين لأن يلعبوا دور (الغنمات) التي ستلتهم ثقافة الزهور ؟ هل هم نفسهم الذين يجرحون بثقافة الآخرين و أيضاً المؤيدين لهم بالتعليقات الجارحة؟
أعتقد ان أكثر شخص مؤهل لأن يلعب دور الغنمات التي عليها ان تأكل الزهرات الثقافوية هو الشخص نفسه ذو العبارات التراشقية الجارحة وكل من أيده بالتعليقات.