معالجة سينمائيّة
“ثمّة راهب وجزّار يتشاجران داخل كلّ رغبة.” سيوران.
أثار المقتل الوحشيّ للشابّة التونسيّة رحمة مؤخّرا، بعد العثور عليها ملقاة بوادٍ مشوّهة الجسم، موجة استنكار وإدانة شديدتين على كافّة الأصعدة الاجتماعيّ الموسّع والحقوقيّ والسياسيّ، وعلت بالمناسبة الأليمة الأصوات ملحّة على تنفيذ حكم الإعدام، بالأحرى على إعادة التنفيذ الفعليّ لحكم الإعدام بتونس بعد أن وقع تعطيله منذ ما يناهز ثلاثة عقود، في علاقة بمجرمي الحقّ العامّ خاصّة، أمّا الإعدامات السياسية فهي تحدث تحت جنح الظّلام وفي الأقبية السريّة للسّجون التونسيّة، وذلك مقابل أصوات سياسيّة وإعلاميّة وحقوقيّة تمسّكت برفضها هذا الإجراء الجزائيّ في حقّ القاتل العمد والاقتصار على السّجن المؤبّد للجاني.
من جملة التدوينات الفيسبوكيّة الكثيرة التي كُتبت حول الحادثة وتداعياتها المختلفة، تشارك الكثير من روّاد الفيسبوك تدوينة ساخرة تقول، بتصرّف: “أنا ضدّ الإعدام، هناك من هو بحاجة إلى قلب أو كلية أو كبد، فلنفكّكه إلى قطع غيار لينتفع منه النّاس.”، أحد المعلّقين قال إنّه، القاتل، شخص فاسد مجرم روحا وجسدا، والموت أهون من إسكان عضو فاسد في جسد جديد.”
هل يحافظ العضو المزروع على ذاكرته الجسديّة الأولى ليستمرّ بـ” الحياة” ثانية بها مؤثّرا بذلك في المسار الحياتيّ للمتلقّي؟ هل يخبّئ كلّ منّا، في كهف سريّ من نفسه، روحا فاوستيّة في انتظار علامة للظّهور؟
كثيرة هي الأفلام العالميّة التي تناولت مسألة زرع الأعضاء وعلاقتها بالجسم المضيِّف بدءا من رفض تقبّل العضو الجديد إلى الوقوع تحت تأثير ذاكرته الجسديّة الأولى، كأن تتغيّر مشاعر الذي زُرع له قلب ثان وفق المسار الذي عاشه الشّخص الذي وهبه مضخّة الدم هذه. أحد هذه الأفلام ناقش مسألة التأثير والتأثّر هذه في علاقة بالجريمة في بعديها الوراثيّ والمكتسب، “مخترعا” النسخة المؤنّثة لفرانكشتاين، جسّدتها الممثلة (Lindsay Duncan ) في دور الجرّاحة أغاثا ويب قبل ظهور الطبيب هيكتور في فيلم فرانكشتاين سنة 1994 المقتبس عن رواية بالعنوان نفسه لماري شلّي كانت قد صدرت لأوّل مرةّ سنة 1818.
(BODYPARTS) فيلم يندرج ضمن أفلام الجريمة والرعب أخرجه سنة 1991 المخرج الأمريكيّ (Eric Red) وكان من بطولة (Jeffry Fahey) في دور “بيل كروشناك”. وقصّته هي عن شخصّية بيل كروشناك الذي تعرّض إلى حادث مرور خطير نتج عنه قطع لذراعه اليمنى. يُنقل “بيل” إلى المستشفى وهناك تقنع الطبيبة “أغاثا ويب” زوجته بالتوقيع على عقد قبول زرع ذراع جديدة لزوجها. تُنجز العمليّة بنجاح ويعود “بيل” إلى منزله بذراع موشومة بندوب الجراحة الكثيرة المنفّرة لتأخذ منذ البدء حيّزها الخاصّ والمختلف من الجسم المضيِّف. رحّب “بيل” بالعضو الجديد وتقبّله كما هو كبديل ناجز عن ذراعه المفقودة، وكواقع أمر يجب تأهيله والتعايش معه. التأهيل كان شاقّا، أمّا التعايش فكان كارثة قلبت حياة الرّجل رأسا على عقب. الذّراع تسيّح دم صاحبها عند الحلاقة، وتمتدّ ليلا وهو نائم لتلتفّ حول عنق الزّوجة إلى جانبه لخنقها، وتنفلت كلّما لاعب طفله فتعنّفه بشدّ، ومع مرور الأيام صار “بيل” يخوض معارك جدّ عنيفة في المقهى أو البار ويسبب أضرار جسديّة جسيمة للمعتدى عليه بتلك الذراع وحدها. اليسرى، الذراع الأصليّة لا تخوض تجارب العنف هذه. سوف نلاحظ أنّها مغيّبة في كلّ أعمال العنف المنجزة، مغلوبة على أمرها، ومحيّدة بشكلّ ملفت ودالّ.
من هي هذه الذّراع؟
لهذا العضو هوية مغايرة هي التي لصاحبها الأصليّ وأولى مقوّماتها هي البصمة، وعن طريقها عرف “بيل” أن ذراعه الجديدة كانت لأحد عتاة المجرمين والقتلة السيكوباتيّين، نُفّذ فيه حكم الإعدام ووقع تفكيك جسمه إلى قطع غيار كما يحدث ذلك مع غيره ممّن نُفّذ فيهم الحكم نفسه، قصد زرعها في أجسام مختلفة. ألهذا الحدّ كانت الذّراع الجديدة هويّة قاتلة استطاعت أن تهيمن، رغم أنّها طرف واحد من جملة أربعة، على بقيّة الجسم بكلّ أجهزته الحيوية وتغيّر مسار حياة الشّخص على نحو جذريّ؟ وماذا قد يفعل الذي زُرع له الرّأس/ العقل المدبّر للجريمة؟ هل يولد البعض مجرما متخفّيا في انتظار مناسبة تنصيب القاتل الذي هو عليه حقيقة في المجتمع بدل النسخة الأولى المزيّفة عنه؟
يعتبر عالم الجريمة الطبيب الإيطاليّ تشيزري لمبروزو أنّ “المجرم إنسان بدائي يتميّز بملامح خاصة توفّرت فيه عن طريق الوراثة فتكون قامته ذات قصر أو طول غير اعتياديّين، يتّخذ له وشوما كثيرة ومثيرة من حيث الدلالة النّفسيّة والأخلاقيّة، وقد يشكو “خَلَلاً عضويًّا يجعل الإنسانَ يشعر بداخله بمركّب النقص؛ فيرتكب الجريمةَ؛ كأن يكونَ ضيِّق الجبهة، أولديه شذوذٌ في تركيب أسنانِه، أو اعوجاجٌ في أنفه، أو قِصر غير عادي في أذنيه.” في نقاش هذه النظريّة نعرض مثالين: واقعيّ وفنّيّ. قاتل الشّابّة التونسيّة رحمة معتدل القامة دون نحول مجحف، لا يبدو من الصّور أنّه قبيح أو ذو ملامح بدائيّة كما في صفات “الرجل المجرم” للمبروزو، هو لصّ محترف خرّيج سجون عنيف اتّهم سابقا بالقتل دون أن تثبت عليه التهمة، وينحدر من أحد الأحياء الشعبيّة الفقيرة بالعاصمة التونسيّة ورحمة هي آخر ضحاياه من النّساء. ومن جهة أخرى يتمتّع القاتل صاحب الذراع في الفيلم بجسم ضخم قويّ البنية تغطّي جسمه وشوم كثيرة نابية وعنيفة، وهو قاتل متسلسل ضحاياه غالبا من النّساء وصُنّف ضمن فئة المجرمين “البسيكوباط” وحُكم عليه بالإعدام. لكن ماذا عن “بيل كروشناك وهو رجل مستقيم وسيم وجذّاب ينتمي إلى طبقة اجتماعيّة مرفّهة، ويحظى بحياة عائليّة ومهنيّة مستقرّة وسعيدة. كلّ ما في الأمر أنّه مُرغم بمعنى ما على ارتكاب ما ارتكب تحت سيطرة قاهرة للسّيرة الذاتيّة التي للذراع الشريرة، لكنّ ذلك يضع استقامته واتزانه السلوكيّ والنّفسيّ والاجتماعيّ محلّ تشكيك. هناك جهاز عصبيّ واحد يصل العضو المزروع إلى كوِنه الجسديّ الجديد، ومضخّة واحدة تزوّده بالدم نفسه، ومنظومة فيزيزلوجية وبسيكولوجية وذهنيّة واحدة تنظّم سير عمل الجسد في علاقته ببعضه البعض وبالآخر عامّة. قد تكون “الهويّات القاتلة” ظاهرها (ذراع المجرم كأداة تنفيذ) وباطنها (الشرّ الكامن في نفس “بيل”) تفاعلت فيما بينها ورفعت الغطاء عن الروّح الفاوستيّة المستورة تحت أناقة المظهر ولطافة الطّبع: “فمن منّا وهو يبحث عن نفسه في المرآة، في شدّة العتمة، لم يُشاهد، معكوسةً، الجرائمَ التي تنتظره” يتساءل سيوران في ” المياه كلّها بلون الغرق”.
درَس علم الإجرام الخارطة الجينيّة للمجرم باحثا عن استعدادات قبليّة وراثيّة تهيّئ الفرد لأن يكون منحرفا أو قاتلا محترفا وهو ما عرّفه لورنزو بـ “الدّافع الخلقيّ” للجريمة. هناك عامل داخليّ لم يدركه بيل كروشناك يزوّد الذراع بإرادة الفعل ويمنحها الطّاقة اللازمة للتنفيذ في علاقة بالطّبيعة المزدوجة للذات البشريّة. وبالمقابل يقف الوعي سدّا منيعا أمام انجراف الذّات إلى الهلاك، ويحميها من وجهها الشّرير المختبئ في عمقها المظلم عبر السؤال والبحث عن الحقيقة الكامنة وراء كل ما يحدث معه. أحد الأسئلة الحائرة سيقوده إلى المنتفع الثاني بالذّراع اليسرى للمجرم نفسه. في فضاء منزليّ تعمره الوحشة والظلال الدّاكنة، إحالة على عالم الجريمة السوداء، في ركن ما منه وتحت إضاءة ضئيلة تشحن الجوّ العامّ بالحزن والبشاعة وقف رجل أمام لوحة جداريّة ضخمة يمسك باليمنى طبق الألوان ويرسم باليسرى. الذراع اليسرى هي العضو المزروع واللوحات المرسومة كانت استعادة بصريّة فنيّة لكلّ جرائم القتل والاغتصاب التي قام بها صاحبها الأوّل. اللّطخات المروّعة من الألوان الحارّة القاتمة ودرجات الأسود الموحش ودفقات الأحمر القاتم ينزف من أجسام الضحايا وصرخات وجوههم المستغيثة هي إعادة سرد ذاتيّ للتاريخ الدّمويّ لذلك المجرم والذي انتقل برمّة وحشيّته عبر ذراعيْه باعتبارهما جهازين تنفيذيّين، سرد ذاتيّ لأنّ اليد التي بطشت ونكّلت بالضّحايا هي نفسها التي تلقي علينا اعترافاتها عن طريق الفرشاة والألوان. وبينما واصلت ذراعٌ مهامّها القديمة في البطش بالناس مهيمنة على جسدها الجديد، خضعت الثانية لسلطة الفنّ الذي كيّف طاقة العنف السلبيّة فيها وحوّل وجهتها نحو الاعتراف عبر تفريغ تلك الطّاقة بضربات الفرشاة العنيفة على محامل جداريّة أو خشبيّة وإذابة شرورها السّوداء في الألوان فكفّ بذلك شرّها عن النّاس، وكشف لهم الحقائق المخفيّة وراء كلّ عمليّات الزّرع المشبوهة التي نفذّتها مافيا الأعضاء البشريّة بالتعاون مع فريق من الأطبّاء ورجال من الأمن. وليس غريبا أن نكتشف مع تقدّم الأحداث أنّ المستفيد الثالث حامل الرّأس المزروع هو من يحمي هذه المجموعة، ويحرس مخزن قطع الغيار الجسدية المُخزّنة، وهو نفسه الذي سيسعى لاسترداد تلك الذّراع من “بيل” بطريقة وحشيّة واحترافيّة مجرم مختل نفسيّا، عندما يصير عنصرا مهدّدا لهم.
لا يبرّئ الفيلم الذّات من الشرّ ملقيا باللّائمة كلّها على هويّة العضو المزروع ونمط حياته الأولى، لكنّه يسلّط الضّوء على العوامل الخارجيّة التي تشكّل قوّة شرّ مهيمنة تجذب البعض إلى متاهات الجريمة والانحراف، وتحرّض في البعض الآخر نزعة الشرّ الخاملة فيه.
إنّ زراعة عضو فاسد في جسم سليم، لا تختلف من حيث نتائجها التدميريّة على الأفراد والمجتمعات عن زراعة الأفكار المتطّرفة في العقول ومشاعر الكراهية والإقصاء في القلوب، والمخدّرات في الأحياء الفقيرة والمناطق المهمّشة. وحتى في عمليات “الزّرع هذه، هناك دائما تجّار أشخاص وأعضاء بشريّة، وعصابات السلاح والمخدّرات يتحرّكون تحت حماية قانونيّة أو سياسيّة يؤمنّها لهم ساسة ورجال نافذون في أجهزة الدوّلة وأمنيون، ولعلّ المجرم من بين هؤلاء ليس غير الحلقة الأضعف في سلسلة الشّر المتينة، والمشهد الذي وقعت عليه عين الكاميرا من سيناريو الجريمة المنظّمة. من بين الثلاثة الذين تلقّوا أعضاء المجرم في ( Body Parts) لم ينجح في كبت العنف والخروج عن سيطرته غير الفنان التشّكيليّ. كان الوحيد الذي استسلم “لفيض ثغراته الخاصّة” وأعاد تشكيل وجوده وفق ما استجدّ على جسده ومن ثَمّ كينونته كلّها من معطيات. ليس الإبداع غير تلك السلطة المضادّة التي بإمكانها دوما وبكل ما يُتاح لها من وسائل وتعبيرات أن تقارع سلطة العنف الخارجيّ منه والمتدفّق من ثنيّات الأنا المظلمة لتكفّ آذاها عن النّاس وتحدّ من سرعة انتشارها.
مجلة قلم رصاص الثقافية