“يا حنّان يا منّان، اجعلني جميلة في نظر من أحب، يا حنّان يا منّان.. ارسمني دوار شمسٍ بين خطوط كفه، يا ذا العطاء، يا ذا الرجاء، ازرعني في تربته مرجاً أخضر يعيد إليه شبابه، اسق العطاش تكرماً يا واهب الخصب واهطلني مطراً على سنواته العجاف”.
طوى الشيخ التميمة بشكل هندسيّ، حرّك شفتيه بأدعية غير مترابطة وهو يسترق نظرات اشتهاء على أنثى عاشقة تتكوم عند قدميه، ثم قذف التميمة فحطت فوق فخذيها المرتعشين، أخرجت مالاً من حقيبتها ورمته أمام ذكر مشوّه الوجه، يحرس هواء سيده.. وقفت أمام بيت مهجور، تتداعى جدرانه، وتشرع نوافذه لمواء القطط الجائعة، فردتْ كفها، فأضاءت التميمة كالنهار، ومشت في طريق طويل..
في أول خطوة لفض عذرية الكلام، أدارت أرقامه، تنشقت صنوبر صوته، كما تلهف لارتجاف حروفها، هذه هي البداية التي رسم خطوطها عراف البيوت المهجورة.. في المكالمة الثانية بدت أكثر قرباً منه، كما تشوّق لسماع الكثير عنها، وأخذ الحديث يفجّر مواهبها في استدراج الذكر إلى جنتها بالإغواء حيناً، والمراوغة حيناً وهذه وصية عراف الأماني المتداعية التي حرصت على تنفيذها بحذافيرها.. أخاطت جراباً من الحرير الأزرق، وسّدت تميمتها بداخله، علقتها قرب صورته التي سرقتها دون علم منه.. وفي كل مرة يتأخر اتصاله، تركع أمام أيقونتها ضامة يديها إلى صدرها، وتتمتم: يا حنّان يا منّان..
فيقطع رنين الهاتف لهفة صلاتها، ويتضوع بخور الكلام، وتنتشر أدخنة زرقاء تحمل بين حناياها إشعاعات حمراء تبدو ثم تختفي حسب حرارة الكلمات.. قال لها عراف النوافذ المسرعة: “إياك ثم إياك أن تبوحي بحبك لرجل، فقلوب الرجال فقاعات صابون، لن تقبضي عليها حينما يفترسك وحش الشوق، فلا الكأس يرويك، ولا الطب يشفيك”.
في ذلك المساء تسرّب صوته كموسيقى القدر :”تعالي أنا مريض”….
كم طال انتظارها لهذه الدعوة ..طافت حول بيته سبع مرات، تمسّحت بقضبان نوافذه، رمت وصايا عراف الشياطين بجمرات قلبها..
كان لنقر الباب صوتاً خافتاً كالأنين، تلقف يدها، وأبقاها بين يديه، ثم أدخلها أمامه..
كان بيته مزيجاً من دفء وموسيقى، احتارت أيهما يصدر عن الآخر، تكلما في القضايا العامة والخاصة دون أن يقرب أحدهما من فوران ذلك البئر الذي يسمونه “قلباً”.. قامت وودعته، فشيعها، وعاد يسأل عنها وعن المكان ….
لم تعد تحتمل وصايا عراف الذنوب، فحشدت طاقاتها معلنة التمرد والعصيان، قفز قلبها من بين قفصه، طلبت أرقامه، قالت بما يشبه الهذيان: “أحبك”….. فتنهد القلب الساكن في الطرف الآخر، وتمايلت حبال الأمنيات، وتعاهد القلبان على الكتمان كيلا يعاقبهما عراف الحروب البشرية… انتزعت صورته عن الجدار، ضمتها إلى صدرها، راقصتها.. خطوة، خطوتان، قفزت في الهواء… رفرفت… ثم حطت على الكرسي منهكة، فتسرب صوت عراف القيامة: إن زمن التوبة قد ولى وجاء يوم الحساب.
سقطت الصورة من يدها، وهوت محدثة أنيناً مدوياً…….. مضى أسبوع دون أن تسمع صوته.. هبت إلى تميمتها فلم تجدها، حفرت الجدران، الأرض، السماء، ركعت أمام صورته، حاولت الكلام، فتماوجت الحروف في عقلها وبدت كالخيوط الدقيقة وانقطعت متحدية ذاكرتها.. مثلت بين يدي عراف النهايات، مشعثة الشعر، منتفخة الأجفان وصاحت: “عطشى لصلاة صوته، عطشى لمزارات صدره، امطر يا ذا العطاء، ارعد يا ذا الرجاء، أفض من بركاتك فرصة جديدة، أملاً جديداً”.
وقف عراف القلوب التائهة، مسّد لحيته البيضاء الطويلة، قذف تميمة مثلثة الشكل، فحطت على فخذين يرتجفان، ثم وضعها عراف الاتجاهات الحائرة على مفترق طرق، ثم اختفى.
مجلة قلم رصاص الثقافية