أهمية الفلسفة تظهر أكثر لكل باحث في مسببات تقدم وتطور الأمم وعوامل حضارتها، إذ سنجد خلف هذه الإنجازات فلسفة وتفكير حر ومستقل. وهو تماماً ما يفسر أن كِلا الحضارتين الرومانية واليونانية كانتا مسبوقتين بالفكر الفلسفي المهم، ولاحقاً أدى تراجع الفلسفة والتفكير العقلي والفكر الحر إلى سقوطهما في القرن الخامس للميلاد.
الفلسفة ساهمت كذلك بفعالية في بروز الحضارة الإسلامية، خاصة في مرحلة الخلافة العباسية التي شكلت شعاعاً علمياً وفكرياً لكافة البشرية. وكان للخلفاء والولاة وعدد من الوزراء وخواص القوم دوراً هاماً في توجيه ورعاية الفكر والعلوم والآداب وتنشيطها وتطويرها. إذ كانت تعقد مجالس فكرية وأدبية وعلمية في القصور والأواوين، يتم خلالها التداول بالأدب والنقاش بالعلوم والسجال بالأفكار. وكان الأمراء والوزراء يغدقون الأموال والهبات على الشعراء والعلماء والفلاسفة. وقد اشتهر كثير من هذه المجالس لعل أبرزها مجلس الوزير “يحيى بن خالد البرمكي” حيث شهدت سجالات وحوارات حول قضايا فقهية وسياسية وعلمية واجتماعية، شارك فيها مفكرين وأدباء وأئمة.
من أبرز القضايا التي تم نقاشها في مجالس العلم قضية “خلق القرآن”، وكانت سبباً في اشتداد الخلاف بين المتحاورين الذين كانوا منقسمين إلى اتجاهين متعارضين، هما المعتزلة وأهل السنة والمحدثين. احتد الشقاق بين الجانبين وتجاوز معيار الجدل والمناظرة والنقاش إلى وضع تم فيه استعمال القهر والقمع والسجن والتصفية الجسدية.
وما إن أخذت المؤسسة السياسية والسلطة الدينية في التضييق على الفلاسفة واضطهادهم، حتى انزلقت الدولة الإسلامية نحو قاع الصراعات التي أدت إلى انهيارها، وما تلا هذا الانهيار من تراجع وارتداد فكري فلسفي علمي مرعب، حيث غاب نور العقل والفكر وسادت العتمة والجهالة وانتشر الهراء لغاية اللحظة.
الفلسفة بثياب عربية
الإهمال المتعمد عربياً للفلسفة والإجحاف الذي لحق بها وبتفاعلاتها، أصاب التفكير الفلسفي في الراهن العربي بضربة قاضية أودت به إلى الموت الدماغي، في حالة عربية تشهد في مجملها انكساراً وفشلاً وتعثراً في كافة الميادين والمستويات، مما أوجد جدراناً مرتفعة تحول بيننا كأمة ما زالت تتلمس وتبحث عن مشروعها النهضوي، وبرنامجها الإصلاحي، وتحديد رؤيتها الاستراتيجية من جهة، وبين التحديث والتطور والتقدم العلمي والصناعي والإنساني من جهة أخرى، وتحولنا بالكامل إلى قطعان تستهلك الإنتاج الحضاري للآخرين، بدءًا من أبسط الأشياء إلى أكثرها تعقيداً.
فالعرب يتعاملون مع الفلسفة على أنها ترف فكري لا يمكنها معالجة مشكلات التنمية، ولا أن تطعم البطون الفارغة، ولا تقضي على الأمراض، ولا توفر مسكناً لمتشرد. ويقولون باستهجان إذا كان الفلاسفة أنفسهم مختلفين بشدة فيما بينهم على تعريف موحد للفلسفة ومختلفين في مذاهبها، فكيف يستطيعون مساعدة الناس في مواجهة متاعب الحياة.
ويضيف آخرون متسائلين بسطحية مفزعة عن أهمية أن يطلع الإنسان المعاصر على نظريات سقراط وافلاطون وأرسطو، وماذا يحقق إن قرأ أعمال هيجل وكانط وديكارت.
قديما كان ينظر للفلسفة على أنها أم العلوم، ثم أدى زيادة الاهتمام بدراسة الوقائع المادية نتيجة تراكم المعلومات، وضرورات تعمق البحوث كان لابد من ظهور المنهاج التجريبي الذي يدرس الأجزاء وصولاً للكل، وهذا بطبيعة الحال يناقض المنهاج الفلسفي، لذلك استقلت العلوم عن الفلسفة. ولكن التقدم العلمي الكبير والتطور الحضاري والقفزات التقنية التي حققها العالم، كشفت الحاجة للفلسفة مرة أخرى على اعتبارها عاملاً محرضاً للعقل وتنقيته من الأوهام والخرافات، وكذلك حاجة العلوم إلى دور الفلسفة لإجراء مقاربات أخلاقية للاكتشافات العلمية، والأهم ترشيد التطور العلمي وتوظيفه لخدمة المجتمعات البشرية.
بهذا المعنى هل يوجد مشروع فلسفي عربي فاعل؟ هل توجد في الأصل فلسفة عربية وإنتاج فلسفي؟
الجواب بظني لا كبيرة، فمادامت الفلسفة في الواقع العربي كاصطلاح نظري أو كمنهاج أو كقيمة، معزولة عن بقية المكونات التفاعلية المجتمعية، ومادامت السلطة السياسية والدينية والاجتماعية والثقافية تحظر التفكير الفلسفي المستقل، وتعتقل حرية العقل، وتحجر عليه لمنعه من ممارسة نقداً فلسفياً، فلا يمكن الحديث لا عن إنتاج فلسفي عربي ولا عن أي مشروع فلسفي. الأدهى انتشار ثقافة سطحية تعتقد أن الفلسفة هي ممارسة قديمة لا يحتاجها عصر التقنيات. إضافة إلى نظرة البعض للفلسفة والتي يشوبها بعض السخرية والتهكم. إنهم أصحاب مفاهيم مبتذلة لا تكترث بالفكر العلمي، ولا تجد نفسها معنية بحالة التخلف الحضاري للأمة العربية. ولا شك أن لبعض الأنظمة وبعض القوى مصلحة كبرى في تعميم الظاهرة الظلامية في الواقع العربي لتواصل انتفاعها من احتكار السلطة والثروة.
وفي العالم العربي سلطة كهنوتية معطوبة تأخذ شكلاً ثيوقراطياً، تدّعي العصمة والتوكيلية، والتفرد بامتلاك الحقيقة والمعرفة، وهي الأخرى لها مصلحة في المحافظة على الوضع الثقافي السقيم والسطحي القائم، خاصة فيما يرتبط بالفلسفة على اعتبارها ضرباً من ديباجات تنظيرية ضالة، وقد يصل البعض إطلاق اتهامات بالجنون والزندقة على الفلسفة والفلاسفة.
سؤال الحرية فلسفياً
هل للحرية من بداية ونهاية؟ هل للحرية من معنى خارج الحرية ذاتها؟ هل للحرية معنى معين، وجهة محددة؟ هل يمكن الكتابة عن الحرية دون تحدي مواجهة ومقاربة هذه الأسئلة وغيرها؟ هل هي أسئلة تخص الفلسفة أم الفكر؟ من يصنع الحرية ومن ينتج بذارها؟ هل يمكن للفكر الفلسفي مقاربة هذه الأسئلة وما شاكلها دون التعمق في مفهوم الحرية ذاتها؟ كل هذه الأسئلة تضع نفسها أمام الفيلسوف والمفكر والمثقف على حد سواء، وتضعهم جميعاً في تحدي استفزازي، فإن عجزوا عن القيام بهذه المواجهة، لن يكون للحرية من معنى.
هل تختلف فعلاً الحرية التي ينشدها المواطن العربي البسيط عن الحرية التي يفاخر بها الإنسان في الغرب؟ بالطبع لا، لكن ما يريده العرب أصبح سؤالاً إشكالياُ متعباً ويتسبب بالإرباك والاختلاط لدى الباحثين. إذ لا إجماع عند العرب على تعريف مصطلح “الحرية”.
ولأن العرب أهملوا الفلسفة وأسقطوها من حساباتهم، لم يتمكن للآن أحد منهم شعوباً وأنظمة، من إجراء مقاربات حقيقية فلسفية لأهم أسئلة الحرية: لماذا ينبغي على الإنسان -مطلق إنسان- أن يقوم بإطاعة إنسان آخر؟ لماذا لا يعيش الناس كما يريدون؟ هل الطاعة واجبة عليهم؟ من يطيعون وكيف؟ ما الغاية من الطاعة؟ هل يستطيع أحد ما أن يفرض الطاعة على أحد آخر؟ كيف يتم فرض الطاعة، بأي وجه، لأي هدف، لأي درجة؟
ماذا يعني أن أكون حراً؟ ما الذي تتطلبه حريتي؟ ماذا يحول بيني وبينها؟ من يحدد تصرفاتي؟ هل اتصرف وافعل ما اشاء بالطريقة التي أختارها أنا، أم أنا خاضع لجهة ما أو شخص ما يشكل مصدر السيطرة علي والتحكم بأفعالي؟ من يقرر كيف أفكر وماذا افعل، هل هي أسرتي، أم مدرستي، أم رجال الدين، أم الأجهزة البوليسية؟ هل أنا أخضع لأنظمة وقوانين دولة مؤسسات، أم لنظام استبدادي، نظام رأسمالي، اشتراكي، ليبرالي، ديمقراطي، ملكي، جمهوري؟ هل أنا اقرر مصيري وقدري وواقعي ومستقبلي أم أحد آخر؟ من يمنعني من تحديد خياري وما أريد وما لا أريد؟ هل يمتلك قوة زجر يستخدمها ضدي، وما مقدار هذه القوة؟
نقد التفسير الحتمي
الفيلسوف البريطاني الروسي المولد “أيزايا برلين” أجرى مقاربات فلسفية في قضية الحرية، ونقد التفسير الحتمي لأفعال البشر بوصفه تحييداً للحرية وللمسؤولية، في مقالتين شهيرتين “الحتمية التاريخية” و “مفهومان للحرية” التي قدمها كمحاضرة في العام 1958 في جامعة ” أوكسفورد” وتحولت لاحقاً إلى مرجع لا يمكن إغفاله في أي بحث حول الحرية. ثم تم جمع أربعة مقالات عن الحرية في كتاب حمل نفس الاسم باللغة الإنجليزية، وصدر في العام 2003.
في القضية الحتمية، فيما يذهب علماء الاجتماع إلى اعتبار الإنسان قابل للتقوقع علمياً، وأن أفعال الناس غالباً تعود إلى أسباب وراثية وصفات بيولوجية، أو نتيجة البيئة الاجتماعية، أو مستوى التعليم، أو نتيجة تفاعل هذه المكونات فيما بينها. من هنا فإنه ليس علينا أن نعاقب البشر على الجرائم التي يقترفونها، إنما يجب معالجتهم لأن أسباب الشر لديهم تعود إلى عوامل نفسية أو اجتماعية. لكن برلين لا يقر بحتمية الظواهر البشرية، ولا يعترف بأنها فقط ظواهر سببية قابلة للإحصاء والقياس العلمي. وانتقد برلين غياب المعيار الأخلاقي لدى بعض علماء الاجتماع في تفسير الظواهر، والانشغال فقط في العامل الموضوعي الذي يفرض سطوته على الناس، والتركيز أيضاً على العوامل النفسية والاجتماعية التي لا حيلة للإنسان في السيطرة عليها.
يعتبر برلين أن الحتمية في التاريخ تتناقض مع مبدأ الحرية، وأن حتمية السلوك تتناقض مع القيم والمثل الأخلاقية، وأنه أيضاً تقضي على الحرية. ويذكر في كتابه أن جوهر الحرية يكمن في قدرة الإنسان على اختيار ما يود اختياره، دون تحكم وإجبار وإخضاع. وأن الحرية هي حق الفرد في الاعتقاد بما شاء، حتى لو كان خروجاً عن السائد، دون أن يتعرض للإرهاب. دون ذلك لا توجد حرية حقيقية. هي معضلة مفهوم الحرية في السياق الليبرالي المعاصر، في مواجهة الموروث التاريخي الوضعي.
مفهوم إيجابي للحرية
وعن المفهوم الإيجابي للحرية فإنه يصدر من تطلع الفرد أن يمتلك أمره، وأن تكون قراراته وأفعاله نابعة من ذاته، وليس من طرف آخر، ويعني أيضاً امتلاك الإرادة المستقلة دون وصاية من أحد، وأن يحدد الإنسان أهدافه لأسباب ذاتية مرتبطة به، ولا تفرض عليه فرضاً. وهذا المفهوم شبيه بمفهوم عدم تدخل الأخرين في منع قرارات واختيارات الفرد، وكأنك تقول شيء بطريقتين مختلفتين واحدة إيجابية والأخرى سلبية، لكن التطور الذي حصل على هذين المفهومين بصورة غير منطقية أدى إلى حالة اشتباك وتصادم بينهما.
مثلا أن نقول الإنسان سيد نفسه ويقرر ما يشاء، أو نقول الإنسان ليس عبداً ولا مملوكاً لأحد، قد يبدو ألا تعارض بين العبارتين، حسنا، ماذا لو كان الفرد عبداً لنزواته التي لا يمكن السيطرة عليها؟ ألا يعني هذا عبودية من نوع ما؟ نعم إنها كذلك. تماماً مثلما نجد أن هناك عبيداً للسياسة، عبيداً للأفكار وللأيديولوجيا، عبيداً للمفاهيم الروحية؟ عبيداً للأشخاص؟ الجواب نعم يوجد.
لنتوقف قليلاً أمام نموذج آخر جميعكم تعرضتم له. هناك تباين واختلاف بين قولين، في أن يقول أحد ما أنه يعرف مصلحة فلان أكثر من فلان ذاته، وأنه قد يتجاهل رغبات فلان فقط من أجل تحقيق مصلحته. وبين أن نقول إن ذاك الفرد قد قام بالاختيار والقرار بسبب طبيعته، ولم يقم بالاختيار وهو بوعيه، ولا كما يكون عادة.
بل هو قام بذلك كذات عقلانية تدرك ما هو جيد وتختاره، وهي ربما تكون منفصلة عن ذاته التجريبية. وبحسب نظرية برلين، فإن هذا السجن الوحشي الذي يعتبر أن بين ما يختاره إنسان ما -إن كان اختياره شيئاً يخالف طبيعته- وبين تطلعات هذا الإنسان وما يرغب فعلا في اختياره، هذا السجن هو نواة جميع النظريات السياسية المرتبطة بمعرفة الذات.
فإن قال الإنسان إنه ربما يتم إجباري على فعل شيء ما، وذلك بهدف مصلحتي التي لا أستطيع أنا إدراكها بسبب قصور في الرؤية والبصيرة لدي. هذا يختلف تماماً عن أن يقول الإنسان لو كان الإجبار يصب في مصلحتي فأنا غير مكره على الفعل، لأن هذا الإكراه والإجبار قد تما بوعي أو بدونه، فأنا في الحقيقة حر حتى لو رفض عقلي الأبله الانصياع للآخر الذي يسعى لفرض شيء هو في الواقع لمصلحتي.
يذكر برلين أن الحرية بهذين المعنيين هما غاية البشر، لكنهما يتعرضا لتوظيفات أيديولوجية وانزياحات تتصادم مع جوهرهما، فعلى سبيل الذكر كأن نقول لرجل فقير أنه يمتلك كل الحرية في شراء سيارة باهظة حتى وإن لم يكن يمتلك ثمنها، وهذا خلط وتحريف، لأن في الأصل لم يكن الرجل حراً لشراء السيارة، لأنه يحتاج إلى الوسائل التي تمكنه من ممارسة حريته والشراء، وهي النقود التي لا يمتلكها.
أما فيما يرتبط بالانحراف والإعطاب الذي لحق بالحرية الإيجابية بالمعنى التاريخي والتوظيف السياسي فهو مرعب، لأن جميع الطغاة استغلوا هذه الحرية لارتكاب أبشع صنوف القهر والاستبداد، وأكثرها وضاعة بحق الشعوب، بصفات متعددة، مرة باسم الأمة، ومرة باسم الدين، ومرة أخرى باسم الحزب أو الأيديولوجيا، ومرة باسم مصلحة الوطن. لقد قام الطغاة والكثير من أصحاب السلطة الدينية والسياسية والأمنية بإخضاع البشر بوسائل رهيبة ولمصحتهم لأن الشعوب قاصرة عن إدراك مصالحها العليا، وقاموا بأسوأ ما يتصوره عقل إجرامي لتحقيق رغباتهم المريضة في إخضاع الناس وإجبارهم على الطاعة.
أبواب الحرية
إن الحرية السياسية في مجتمع ما تشكل حيزاً هاماً وجزءًا من الحريات السياسية للتاريخ البشري. وكما للتاريخ فإن للحرية أبواباً، هناك الحرية الشخصية، والحرية الفكرية، والحرية الدينية، والحرية المدنية، وكلها أبواباً مهمة، بالرغم من أنه قد يتقدم أحدهما على الآخر في مرحلة معينة، ويكون له الأثر الحاسم، لكنها جميعاً على صلة وثيقة بعضها ببعض من جهة، وفيما بينها وبين الحرية السياسية من جهة أخرى. هذا التداخل بين أبواب الحرية يضيف صعوبة جدية للباحث تستدعي بحثاً مقارباً أكثر عمقاً، وتجعلنا نتحدث عن حريات لا عن حرية واحدة.
تشعب الحريات يقتضي فتح نوافذ فيما بينها، ومراعاة الخصائص المتعلقة بكل واحدة منها، ثم الحاجة الموضوعية إلى رؤية الحريات ككل واحد لا ينفصم، وهنا لا بد من استدعاء الفلسفة بصفتها منهج بحث عقلي موضوعه الكل. لكن من أي باب على الفلسفة أن تدخل إلى الحرية؟ وإن كان الفكر على علاقة بالفلسفة، فمن أي باب يدخل الفكر؟ أليس الأولى بالفكر أن يدخل إلى الفلسفة من بابها الأكبر عبر السؤال الأكبر عن معنى الحرية؟
سؤال الحرية العربي
في قواميس اللغة فإن الحرية هي حالة يكون عليها الكائن الحي الذي لا يخضع لقهر أو غلبة، ويتصرف طبقاً لإرادته وطبيعته، خلافاً لعبوديته. وهي القدرة على التصرف بملء الإرادة والاختيار، وهي حرية التَعليم أو طلب العلم أو مناقشة بصراحة دون قيود أو تدخل.
لقد اتخذ جيل الرواد المفكرين والإصلاحيين العرب بكافة تياراتهم الليبرالية والعلمانية والسلفية موقفاً من الفكر الغربي وحداثته وحريته، تراوحت بين القبول المطلق أو الرفض المطلق وبروز تيار توفيقي. وأجرى عدد من المفكرين مقاربات مطابقة بين مصطلحي الديمقراطية الغربي والشورى الإسلامي، وبين نواب الشعب في البرلمان ومجلس العقد والحل، وبين المساواة الغربية والعدل القرآني.
ما يعنينا هنا هو الموقف من الحرية كمصطلح ومفهوم لها سياقها التاريخي والفلسفي في المسارين الغربي والعربي الإسلامي.
إن “جمال الدين الأفغاني” عارض الحرية كمصطلح، ورفض المفهوم الغربي للحرية، حيث اعتبره كمفهوم ليبرالي يدعو للحرية الدينية والفردية، مصطلحاً وشعاراً يسعى الغرب من خلفه إلى النيل من وحدة الأمة الإسلامية. واعتبر أن الحرية تقوض الوحدة الدينية التي هي أساس الوحدة السياسية، التي من شأنها مقاومة التهديد والأطماع الغربية.
لكن تلميذه “محمد عبده” وإن كان قد التزم بموقف أستاذه، إلا أنه سار في درب مختلف، حيث دافع في كتاباته عن مكانة الحرية في الإسلام، واستشهد بتسامح الإسلام والمسلمين مع غيرهم من أهل الديانات الأخرى، وتعايش المسلمين مع غيرهم من اليهود والمسيحيين في مختلف المراحل التاريخية منذ نشأة الدين الإسلامي. وأن الإسلام قد منح غير المسلمين حرية ممارسة الشعائر الدينية. وكان محمد عبده يعتبر أن الإسلام قدر الفلاسفة أكثر من بقية الأديان، حيث ذكر أن مؤسس المذهب البروتستانتي “مارتن لوثر” كان يعتبر الفيلسوف اليوناني “أرسطو” أنه دنساً وكاذباً، بينما كان علماء المسلمين يلقبون هذا الفيلسوف بالمعلم الأول، كيف لا وهو تلميذ الفيلسوف الشهير “أفلاطون” ومعلم الاسكندر الأكبر. وهذه الرؤية تبناها معظم السلفيين الإصلاحيين التنويريين من جيل محمد عبده، إذ اتسم هذا الجيل بحرصه على الهوية الإسلامية، وعدم القطيعة مع الغرب وتنويره، وهذا ما حاول بعضهم فعله من خلال مد جسور بين الفكرين والثقافتين والهويتين والمرجعيتين العربية الإسلامية والغربية.
أبرز من حاول وصل الضفتين هو الشيخ المعلم الفقيه “رفاعة الطهطاوي” أحد رموز الحداثة في عصر النهضة، الذي وظف مفهوم الاجتهاد في الدين الإسلامي لتطوير حرية التفكير، وقام بتجسيد مفهوم الحرية عبر انفتاحه على الفكر الغربي وثقافته، وكان يدعو للاقتباس من الفكر الليبرالي، حيث اعتبر ألا تعارض بينهما في المفاهيم الأساسية.
وفيما يرتبط بالمفكرين الليبراليين العرب من عصر النهضة ورؤيتهم للحريات، فقد جاهر المفكر اللبناني “فرح أنطون” بدعوته فصل الدين عن الدنيا، حيث اعتبر أن ذاك العصر هو زمن العلم والفلسفة، ويجب على كل طرف احترام مواقف وآراء ومعتقدات الطرف الآخر. وكان فرح أنطون مؤمناً أن الأديان بصفة عامة لا تقبل بالحرية ولا تعترف بها، باعتبار أن الأديان تمتلك الحقيقة، وما سواها لا يتعدى كونه ضلالاً وكفراً. من الملاحظ أن انتشار هذه المفاهيم كانت في أوساط المسيحيين العرب، الذين اعتبروا أن الحريات واحترامها لا تتم إلا استثنينا الدين من الشؤون الدنيوية والسياسية، كما فعلت أوروبا.
يمكننا القول إن المفكرين السلفيين العرب من عصر النهضة، كانوا مجتهدين وتأثروا بعض الشيء بالمفاهيم الليبرالية، لكنهم لم يهتموا بالمصطلحات الفلسفية، ولم يقوموا بإجراء مقاربات فلسفية لقيم الحرية، بل توقفوا عند حدود عدم تعارض هذه القيم الليبرالية مع الإسلام، لكنهم رفضوا اية مقاربة للحريات مع الدين، إذ ظلت الحرية بالنسبة لهم خارج الدين، فإن كانت الحرية تعني الانسلاخ عن الإسلام فهي مرفوضة.
لكن التيار الليبرالي العربي كان أكثر جرأة في معالجة الحرية بما فيها حرية الفرد في الاعتقاد باي دين يريد، وحريته في عدم الانتساب إلى أي دين.
فهل أسهم هؤلاء الرواد وأفكارهم الإصلاحية في تأسيس مفهوم الحرية في الفكر العربي أو الإسلامي في علاقاته مع قضايا العقيدة والتعدد الديني والتعايش بين الأديان والمذاهب والأيديولوجيات في العالم العربي؟ هل استطاعت الفلسفة أن تساعد العرب على بناء مجتمع مدني ديمقراطي يقبل بالاختلافات ويحترم التعدد والتنوع الديني والثقافي والسياسي؟ الإجابة بظني لا.
الحرية عند العرب المعاصرين
اهتم المفكرين والمثقفين العرب بالحرية، وانشغلوا كتابةً وبحثاً في أصلها وكيف نشأت، وما علاقتها بالفلسفة، وماهي مكانتها في القيم الفلسفية الحضارية. وفي سياق المقاربات النظرية انقسم المفكرون العرب، حيث انحاز قسم منهم إلى الفكر الغربي والثقافة الغربية وقيمها باعتبارها طريق الرقي والتقدم، فيما رفضها القسم الآخر من المفكرين الذين اعتبروا الحرية الغربية ما هي إلا نزوع الفرد تجاه غرائزه التي تتسبب في انحداره وبالتالي انحدار المجتمع برمته. وانبرى بعض المفكرين التوفيقيين ليجتهدوا في مزاوجة بين الفكرين الغربي والشرقي العربي الإسلامي.
المفكر الفلسطيني “ادوارد سعيد” تطرق كثيراً في كتبه لقضية الحرية ومفاعيلها الفلسفية، وعلاقتها بالثقافة والمثقفين الذين كتب عن دورهم الكثير، واعتبر أن الانحياز إلى الفكر التنويري لا يعني فقط أن تكون منحازاً إلى القيم والأفكار الفلسفية التنويرية، بل يعني أيضاً وهو الأهم أن تكون منتمياً إلى حرية الفرد، فكل النظريات لا تتخذ من الإنسان موضوعاً دراسياً لها إلا بهدف خدمة الفرد وقضاياه وحريته.
بالنسبة للمؤرخ المغربي “عبد الله العروي” فإن مفهوم الحرية قد غاب عن الفكر العربي، وجاء في كتابه “مفهوم الحرية” الصادر عام 1983 أن محور الحرية الغربية هو الفرد المشارك اجتماعياً، وهو مفهوم غير موجود في الفكر الإسلامي. ويميز عبد الله العروي بين حرية الروح والنفس في الفكر الإسلامي، وبين الحرية السياسية والاجتماعية في الفكر الليبرالي الغربي. ويضيف أنه رغم غياب مفهوم الحرية فلسفياً في الفكر العربي، إلا أنه موجود في الوعي والإدراك للإنسان العربي. ثم أجرى العروي مقارنة بين أقوال الفلاسفة الغربيين مثل “جون ستيوارت ميل” و “جون جاك روسو” والفلاسفة الإسلاميين مثل “الطهطاوي” و “الغزالي”، حيث توقف أمام ما قاله الفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل، الذي اعتبر أن المجتمعات الإسلامية غير ليبرالية، لأن نظام الحكم فيها فردي واستبدادي، ولأنها تحرم النقد والنقاش الحر.
المفكر اللبناني “ناصيف نصار” دعا إلى أهمية استئناف مشروع النهضة العربية، واعتبر أن الحرية هي المدخل الأساسي للنهضة، ويميز نصار بين الليبرالية والعولمة، وبين الحرية والأمركة، لأن سؤال الحرية سؤالاً كونياً يهم الإنسانية.
أما المفكر المصري “محمد عمارة” حذر في كتابه “المعتزلة ومشكلة الحرية الإنسانية” الصادر عام 1988 من السلفية وما أسماه النصوصية التي تنكر العقل والتفكير العقلي وتقدس النصوص، واعتبر ذلك أنه ينتج التخلف ويوهن تطلعات الأمة.
أما المغربي “علال الفاسي” أحد أعلام الحركة الإسلامية الحديثة، فقد ربط بين المسؤولية والحرية وبينها وبين حرية التفكير التي تتعلق بمقدار قيمة النقد، ومدى الإيمان بالاختلاف والتعدد.
المفكر الجزائري “محمد أركون” نظّر للعلاقة بين الحرية والعلمانية التي باعتقاده لا تقضي على الدين، إنما العلمانية تقضي على الأفكار العقائدية في المجتمع.
وقال المفكر المغربي “محمد عابد الجابري” أن لا حرية للإنسان خارج وجوده، ,ان يكون الإنسان حراُ هذا يعني أن يختار، وإذا لم يفعل لخوف أو قصور فهو غير حر.
في تخطي الأزمة
فشلت الفلسفة بثوبها العربي في مواجهتها التاريخية مع الأفكار الظلامية، فتراجعت حرية التفكير الفلسفي، وقتلت الحقيقة، وانتشر الاستبداد، وشاع الوهم، وحل التقليد مكان الخلق والإبداع. إن تاريخ العلم والحرية هو مواجهة بين العقل واللا عقل، بين اللاهوت والعلوم، بين منهج العلم وأدواته النقدية ومنهج الأجوبة النهائية. ولأن الفلسفة بنكهتها العربية لم تتحرر من وصاية السلطة التي حجرت عليها، فكانت النتيجة ابتعاد الفكر العربي عن مسيرة الفكر الإنساني وتطوره.
ولأنه لا منفعة في مجتمعات لا يعيش فيها الناس أحراراً، مهما بلغ شأن هذه المجتمعات، فإن معركة الحرية في العالم العربي محتدمة دون توقف منذ منتصف القرن الثامن عشر، ولم تكن معركة بين سياسية فقط، بل انتدت جبهاتها إلى كافة مفاصل الحياة الفكرية والاجتماعية والثقافية والدينية والأكاديمية. المفزع في الأمر أنه رغم الجهود والتضحيات التي قدمها – ولا يزال- المفكرون والمثقفون، والأهم تضحيات الشعوب العربية، فإن الأزمة ما تزال جاثمة فوق تطلعات البشر، وأرى أنها في تفاقم مستمر، والدليل فقط أنظر حولك كعربي أينما كنت تعيش، في مشرق المنطقة العربية أو مغربها، لترى أن بلادنا مثقلة بالبؤس والشقاء وانعدام الحرية. ولا يمكن للعرب تجاوز هذه الأزمة دون معالجة أسبابها من خلال تفكيك الأيديولوجيات السائدة، وهز الأفكار المعرفية وشحذ الإرادة، نحتاج ليس فقط إلى فكر تنويري بل إلى ثورة فكرية تنقلب على ما هو سائد ونمطي في الراهن العربي، تبدأ في الانتقال بالخطاب الفكري والسياسي والديني والاجتماعي والثقافي من ثوبه الحالي، نحو خطاب أكثر تحديداً ووضوحاً، ولا يخشى المغامرة ولا تنقصه الجرأة في الطرق على كافة مفاصل المجتمع، خطاب لا يقفز فوق الأسئلة الكامنة والأفكار المكبوتة ولا يتجاهلها، خطاب يجلب الأسئلة من قاع القمع والتحريم إلى سطح التعبير والعلنية والإفصاح عنها، ووضعها تحت ضوء النقاش والتحليل. نحتاج إلى ذاك النوع من الخطابات التي تستبدل أدوات التحريم والتجريم والاتهامات، بأدوات الفكر والمعرفة، أدوات النور بدلاً عن أدوات الظلام، العلم بدل الجهل، استخدام العقل بدلاً عن الأوهام، الخلق والإبداع بدلاً عن النقل والاستكانة والتقليد، نحتاج إلى خطاب يحرض ويستفز العقل ليجعل منه عقلاً مفكراً حراً مستقلاً متسائلاً، لا عقلاً مذعناً خاضعاً، عقلاً قادراً على الابتكار والإنتاج الفكري والمعرفي، لا العقل الذي يستهلك ويردد.
نحتاج إلى روح ثورية في المجتمعات العربية تناهض النظم السياسية القائمة، وتدفعها للسير في درب الديمقراطية. نحتاج إلى مفكرين ومثقفين وسياسيين ورجال دين وشباب لديهم روح خلّاقة تستحدث أدوات للتعامل مع مجتمعات عربية فيها نظم معقدة للغاية بطبيعتها، نظم تضع سلامة المجتمع ووحدته واستقراره فوق كل اعتبار، مما يعقد مهمة التغيير، ويضع المزيد من العراقيل والصعوبات في طريق القوى التي تسعى للتحديث، خاصة في دول تبدي حرصاً في المحافظة على كيان الدولة بصفتها حاضنة للنظام الذي لا يمكن إيجاده إلا في مسار دولة كتعبير سياسي عن مجتمع عربي مكتظ بالتعقيدات المتعددة.
معركة الحرية تتطلب أيضاً فيما تتطلبه، ثورة في بعض القيم الاجتماعية التي تدعو أطفالنا إلى الامتثال والطاعة، واستبدالها بقيم تدفعهم للتشكيك وطرح الأسئلة، وتعليمهم على النقاش والحوار واحترام قناعاتهم منذ الصغر. استبدال مناهج ووسائل وأدوات التعليم التي تعتمد الحفظ والتلقين الغبي، بمناهج تستخدم البحث والحض على المعرفة.
ولكي نبني مجتمعاً حراً لا بد من إنشاء المزيد من مراكز البحث العلمي، وتوفير أقصى درجات الحرية الإبداعية في هذه المراكز، حتى يتمكن المبدع والباحث والمفكر والمثقف من التفكير باستقلالية، دون الخشية من عقاب السلطة السياسية أو الدينية.
لا شك أن معركة الحرية ليست سهلة حين يكون ميدانها مجتمعات لا يزال بعض مثقفيها يقفون مع الطغاة ضد الشعوب، وبعض رجال الدين فيها يقدسون الزعيم أكثر من النص الديني. مجتمعات مثقلة بالأمية والفقر والبطالة، منقسمة إلى طوائف وقبائل متناحرة متصارعة، تحارب مبدعيها ومفكريها وتقتلهم، تصدر أدمغتها وتستورد طعامها، مجتمعات لا تنتج سوى البؤس والشقاء.
وأنت ماذا تفعل
في القرن الحادي والعشرين، عادت معركة الحريات بقوة إلى الواجهة في المنطقة العربية. حيث مالت الشعوب العربية -الأكثر والاسبق وعياً من نخبها- لفطرتها، وسعت للانعتاق من استبداد النظم السياسية، عبر معركة صعبة تخشاها الأنظمة، لكنها ليست مستحيلة، ولن تتأخر بظني كما حصل في أوروبا، هذا لأن التقدم الذي حصل في قطاع الاتصالات وثورة المعلومات، أدت إلى ظهور جيل عربي بمهارات معرفية متعددة، حيث أصبحت كافة العلوم ومصادر المعرفة بين يديه، وهو جيل آخذ في التملص من كافة أشكال السلطة.
أنت أيضاً أيها القارئ ربما تخشى الحرية، لأنها ستضعك في الضوء، وتجعل الآخرين يروك ويسمعوك ويقيموك. الحرية سوف تكون امتحاناً حقيقياً لك ولجميع المثقفين، لأفكاركم ومواقفكم ومعتقداتكم. أم أنك تريد أن يخوض غيرك معركة حريتك؟ بتأخرك عن فعل شيء تجعل ثمن الحرية مرتفعاً.
مجلة قلم رصاص الثقافية