قال الراوي يا سادة يا كرام: إن رجلاً من بلاد الله الواسعة كتب قصته على رمال الشاطئ ومضى، وقبل أن تمحوها الأمواج الناعمة، التقطها آخر ودوّنها على الأصداف الوحيدة، وقبل أن تكسرها الأقدام الحافية التقطها آخر ودوَّنها فوق الغيمات، وقبل أن تذرف الغيوم دموعها التقطها آخر وآخر حتى وصلت إلينا دون حذف أو شطب، أو تحوير، وهذا ما قاله الرجل الذي كان يسكن في بلاد الله الواسعة:
“جلدي يحكني، وهذه مشكلة تلازمني منذ قرون، أكاد أفتح ثقباً في رقبتي وصدري وجذعي وأطرافي، لم أدع مستحضراً عربياً أو أعجمياً إلا وجربته فوق جلدي.. السائل منه والجامد، والهلامي… حتى الإبر الصينية والحجامة. بل أكثر من ذلك لقد جربت الحبوب المخدرة التي تسطح الجمل..
الحك يلتهمني، أظافر زوجتي وبناتي تكسرت فوق جلدي، البيت يشهد على الخراب الذي أفتعله ما أن تهجم حالة الحك على بدني، كم مرة أشعلت النار وسط الغرفة المسقوفة بعيدان القصب، والمرصوصة بأعواد التين والعنب، والمدكوكة بأحجار كبيرة وصغيرة، ساحة البيت المتربة تشهد على هرولتي المجنونة، وتمرغي الهستيري مثل بغل عجوز، كم مرة امتص بئر الماء صراخي، وكم مرة كتم عوائي.. تشهد على ذلك أشجار التين العارية..
كم كنت أرتاح ليلاً عندما أخلع ملابسي ولا أبقي على شيء، كنت أحلِّق وأطير، ثم أغفو، كانت زوجتي تقفل الباب من الداخل كيلا تدخل بناتي ويرينني عارياً كما ولدتني أمي..
يعود الحك للهيجان ما أن أضع أسمالي على جسدي، وأصدقكم القول أن الحك لم يكن من النوع المسلي، بل كان حكاً لئيماً، لا يهدأ ولا يبرد، أصرخ وأنقبض مثل ثور في حلبة المصارعة، أتوه عن الجهات مثل فأر وقع في المصيدة.. أخيراً وجدت الحل الأمثل ولن أتراجع عنه، رغم أن هذا الحل سيكلفني الكثير ولكن يا روح ما بعدك روح..
خلعت قميصي، خلعت سروالي الأسود، وأبقيت على سروالي الداخلي.. كل مناطق جسدي توقفت عن الحك ما عدا المنطقة التي يشغلها سروالي الداخلي.. خلعته وارتحت منه..
جن جنون زوجتي وهي تشير إلى بناتي .. لكن ماذا أفعل ؟؟ الموضوع فوق طاقة تحملي، ثم أنني لا أمارس أي عمل من قبيل الإغراء لأن جسدي عبارة عن كومة من العظام التي تصدر أصواتاً تشبه أصوات الأبواب التي تحتاج إلى زيت.. والأمر الأهم أن كل شيء قد هدأ ونام..
المهم هممت بالخروج لكن زوجتي أقسمت لو خرجت عارياً ستترك البيت ولن تعود إليه بتاتاً، لم أستمع إلى تهديدها فهذا الشيء الوحيد الذي يريح جلدي الذي تفسخ من أظافرها وأظافر بناتها، وليكن ما يكون..
قبل أن أخرج من البيت كانت زوجتي تجمع بعض الأسمال التي تسميها ثياباً وتلقي بها في كيس قديم، احتضنتْ بناتها وهربت إلى بيت أهلها.. أنا متأكد بأنها ستعود لأن أباها لن يبقيها مع ثلاثة أفواه تأكل، وتصدر ضجيجاً أكثر من ساعة..
مشيت في الشارع وأنا أحاول أن أتناسى عريي.. لحق بي الأطفال الصغار وباشروا برشقي بالحجارة، أغلقت النساء نوافذ مطابخها، تقدم مني بعض الشبان، وتلقيت عدة لكمات من قبضاتهم الغضة، لكن كل هذا يهون أمام الحك الذي هدأ ونام..
اقترب طفل صغير وقال لي:
– عمو لماذا تمشي عارياً؟
قلت له: هل تجرب أن تفعل مثلي؟
رد ببراءة: أليس عيباً يا عمو
قلت له : ماذا ستخسر جربْ فقط، وإن لم يعجبك اصفعني.
ضحك الطفل ببراءة وبدأ يخلع ملابسه إلى آخرها ومشى معي، بدأت أدندن أغنية ترفرف فوق كلماتها الأشجار وتجري من تحت أقدامها الأنهار، فشاركني بصوته الصغير الذي بدأ يعلو مغيِّباً صوتي، فتبعه طفل آخر وآخر، واتسعت الطرقات لنا، واكتملت أطراف الجوقة، وكان الصوت عالياً..
بدا المشهد أكثر إثارة، كنا نمشي ونحن نحمل أصواتنا فوق أجسادنا العارية، لم نعبأ بصفارات الشرطي ولا بالبيض الفاسد الذي كنا نُرشق به، ولا بالحجارة التي كانت تدمينا، وبالكلمات البذيئة التي تمس أعراضنا الطاهرة..
كبر جيشي وتنوعت الأعمار التي انضمت إليه.. وصوت الطبيعة يحلق في سماء البيوت النائمة..
كان الغناء الشجي يموج فوق الأحياء مثل الأشباح، يدخل الغرف المغلقة، يوشوش في آذان الأطفال: تعالوا نغني للحب والأشجار.. كانت كلمات الأناشيد تقول: لا وقت إلا للغناء, أوقفوا معامل نفاقكم، أوقفوا تنظيراتكم واختلافاتكم، أوقفوا صفقاتكم المشبوهة، أوقفوا تحليلاتكم فنحن لا نسمع إلا لهدير الأنهار، وحفيف الأشجار، نحن نتأرجح بخيوط الشمس، ونغفو فوق أهداب القمر…
في ساحة المدينة، كنت أظن أن داء الحك اختارني أنا فقط من دون خلق الله، لكن المدينة كانت كلها مصابة بهذا الداء.. اختلطت التظاهرات وكبرت، وتعالى الشدو بصوت واحد: عاش وطن لا حك فيه، تسقط كل الحساسيات الجلدية التي سببّت بانتفاخ، ونزيف أجسادنا..”.
مجلة قلم رصاص الثقافية