الرئيسية » ممحاة » حاتم علي.. “نامي إذاً يا روحُ .. نامي الآن”

حاتم علي.. “نامي إذاً يا روحُ .. نامي الآن”

رحل حاتم علي..
يا لرهبة هذهِ العبارة وقسوتها!
الثلاثاء 29 ديسمبر من عام المصائب 2020.. يومٌ موجعٌ أرخى بثقله على كلّ السّوريين والعرب.
 كثيرٌ من الحزن و البكاء.
ترجّل فارس الصّورة باكراً..
صاحب الرّؤية الذي أشغل برحيله كلّ الناس، حتّى الذين لا يعنيهم الفن؛ حتى هؤلاء الذين يكابدون معاناة الحياة المُرّة ويصطفّون في طوابير الخبز المقيتة في هذا الزّمان السّيء.
 إنّه حضوره في مماته كما في حياته.
ليس غريباً أن نراهم ينعونه بكلّ هذهِ المرثيّات، لقد كان حاتم صوتهم وكلمتهم وابنهم المتعمِّق بهمومهم ومآسيهم.
النّبيل الذي جعل من تفاصيل حياتهم سرديّاتٍ وصور تفرَّد بنقلها وحملها كأمانةٍ في عنقه.
رحل الإنسان المفرط بالحساسيّة والصّدق، الإنسان الذي أحاط نفسه بالهمِّ السّوري، ليهديه هذا الهمُّ ذبحةً في القلب، ستتحوّل  فيما بعد، إلى ذبحةٍ في الرّوح و هو يشاهد سفلة العصر يحرقون خيام أهله السّوريين في بلاد الشّتات!

تُرى كيف تلقّى مخرج “التّغريبة الفلسطينيّة” مشهد النّار وهي تلتهم خيم اللاجئين بأيادٍ عربيّة؟! وهو الذي جعل من خيمة النّزوح صورةً لتثبيت الحقّ الفلسطيني في وجدان الأجيال. وحوّل الكلمة إلى بندقيّةٍ تُغْني عن كلّ شعارات العرب الجّوفاء.
ما فعله حاتم علي في “التّغريبة الفلسطينيّة” من إضاءاتٍ على الصّراع الطّويل بين الحقّ والباطل، والتغلغل في عمق المأساة الفلسطينيّة و إعادة هيكلتها وطرحها على الرأي العام بالصّورة الأمثل التي تستحقّها، لم يفعله العرب في أكثر من 70 عاماً.
كان مشهد النّار قاتلاً لابن الجّولان الذي أفنى عمره في توجيه البوصلة إلى وجهتها الحقيقيّة!

رحل النّازح المثقّف…
رحل العميق الذي حوّل كلّ محنةٍ إلى إبداع وكلّ منعطفٍ صعبٍ إلى درجةٍ في سلّم نجاحاته الكثيرة. 
رحل صانع أحلامنا الكبيرة وعرّاب نجومنا ومهندس مجدنا الدّرامي وكأنّه يقول لنا: لا تدعوا سنين الغفلة هذهِ تنسيكم وجع الموت، لا تعتادوه، لم يكن الموت عادياً في يوم؛ ثمّة رحيلٌ يكسر القلوب..  لا يُنسى ولا يُعوض.

رحل” عصيُّ الدّمع” موحّداً السّوريين والعرب على محبته واحترامه. وهم الذين، منذ زمنٍ، ما عاد من شيءٍ يجمعهم!
رحل أنيقاً، كما كان، ووسيماً وشامخاً وحرّاً كما عاش طيلة حياته.

رحل صاحب “الزّير سالم” الذي جعل من عبقريّته الممزوجة بالتّحدي أساساً في تحريك كاميرته ورسم صور بصرية لعوالم مختلفة في الحبّ والحنين والفراق والغفران ..
هو الذي قال يوماً “ما يصنع مسيرة أيّ مخرجٍ، ليس تلك الأعمال التي يقبل بإخراجها؛ وإنّما تلك الأعمال التي يستطيع أن يقول لها لا”  كاشفاً بذلك أحد أسرار تميّزه وتفوقه.
حاتم لم يعد “الرّجل س” إذ باتت كل حروف اللغة العربية تشير إليه اليوم؛ إنه المخرج الذي أصبح الرّقم الأصعب بتوقيعه على أهم الأعمال السّورية والعربيّة في السّينما والمسرح والتلفزيون.. الأعمال الخالدة في ذاكرتنا وتفاصيل عيشنا اليوميّ مثل “الفصول الأربعة” و”أحلام كبيرة” و”قلم حمرا” و”الزّير  سالم” و”صلاح الدّين” و”عُمَر”.
وتطول قائمة الإبداع لرجلٍ اتّسع مشواره لعقودٍ من الإبداع في الكتابة والتّمثيل و الإخراج.
المشوار الذي جُبِل بسماء دمشق و حجارتها ورائحتها و ترابها.. التراب الذي سيحتضنه اليوم في نومه الأخير كما تمنّى وتمنت دمشقه. هذهِ المدينة التي افتقدها “الأستاذ” كثيراً، سيغمره ترابُها اليوم..

“نامي إذاً يا روحُ .. نامي الآن”

أيّ مدينةٍ هذهِ التي تحتضن عشّاقها فقط حين يفارقونها؟!
 إنّها دمشقك يا حاتم وأنت أخبر النّاس بأسرارها.

رحل الأسطورة.. وكم يشبه موتُه أعمَاله؛ دقيقٌ ومُحبَكٌ وشاغلٌ وصادمٌ ومثير. بعض المبدعين ينفردون حتّى بطريقة موتهم، إذ يأتيهم الموت و هم واقفون. وربّما ينتظرهم، بإجلالٍ، إلى أن ينتهوا من رشف آخر ما تبقّى في فنجان قهوتهم الأخير، ثم يسدل عليهم ستاراً أبيض.. ويعلن الرّحيل…

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن إبراهيم حميدي

إبراهيم حميدي
كاتب ومترجم سوري يُقيم في العاصمة اللبنانية بيروت، مواليد حلب 1989، يحمل إجازة في الأدب الإنكليزي، إضافة إلى شهادة في الكتابة الإبداعية وأخرى في التصوير القصصي من أكاديمية دوتش ڤيلا الألمانية، صدر له "ثورة حب وانكسار قلب" عام 2015.

شاهد أيضاً

مع ستيفان زفايج

يبدو لي أن الكاتب النمساوي ستيفان زفايج هو الأكثر اهتماما بمتابعة خيبات الحب، وأثرها في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *