اليوم الأول:
فتحتُ فمي لآخذ شهيقاً طويلاً عبره بعد أن استيقظتُ، قد تتساءلون لماذا الفم والأنف موجود؟ حسناً… الأنف غير موجود…نعم، لقد نزعتُه البارحةَ بعد أن طفحَ بي الكيلُ من وصفِ أمي لي بأني فتاةٌ لا ترى أبعدَ من أنفها، واليومَ هو اليوم الأولُ في حياتي الجديدة اللاأنفية.
نهضتُ بكل سلامٍ، نظرتُ إلى نفسي في المرآة، وجهٌ غريبٌ ولكنها ليست غرابةً منفرة، كما الساعة من دون عقارب، أو البابُ بلا مقبض، أو بركة سباحة خاليةٌ من المياه، كلها أشياء لا تكتسبُ هويتها الحقيقيةَ من دون أشياء أخرى تملؤها، ولكن مع ذلك يظلُّ جمال مرهفٌ يحيطُ بها ويمنحها هالةً خاصةً، وهذه هي حالُ وجهي؛ يحتاجُ إلى أنف كي يصبحَ وجهاً ولكنه ليس بالوجه القبيحِ.
دلفتُ بسرعة خاطفةٍ إلى المطبخ كي أثبتَ لأمي أنني سأظلّ كما أنا بعد أن أزلتُ أنفي، وأنني سأرى أبعدَ منه إذ لم أكن أفعل عكس ذلك عندما كان من قبل.
لم تكن أمي هناك، ناديتُ عليها وأنا أتفقدُ باقي الغرف، وهنا لاحظتُ أن ساعة غرفة المعيشة تشيرُ إلى الواحدة ظهراً، إنها في عملها، وأبي أيضاً، وأخي في جامعته، أو…لم يعد كذلك، لقد فتح الباب للتو ودخل.
توقعتُ أن يشهق فزعاً بعد أن يراني لكنه لم يفعل، نظر إلي مبتسماً على عجَل وتابع طريقه إلى غرفتهِ وهو يتحدث على الهاتف، أنا التي تملّكها الفزعُ، ألم يلاحظ وجهي اللاأنفي؟! ألهذه الدرجةِ لم يكن أنفي مهماً حتى لا يشكلَ غيابه أي فرقٍ؟! لم أنتبه إلى بقائي متسمِّرةً في مكاني إلى أن خرج أخي من غرفته ونبّهني بسؤاله عن غداء اليوم، أجبتُ بنبرة آلية ثم مشيتُ بآلية أيضاً أجر أذيال الخيبةِ بعد أن تأكدتُ من أنه لم يلاحظ أي شيء على الإطلاقِ.
عدتُ إلى غرفتي ــ أو إلى مرآتي بالأحرى ــ حقاً لا يوجد أنف، حتى ابن الخامسةِ كان سيقول لي: “أين أنفك؟ هل أزاله أحدهم كي تتمكني من شرب الصودا؟”*
ليت بوسع الإنسان أن يمتلك وعياً في الخامسةِ من عمره يمكّنه من إزالة أنفه مثلما فعلت وبذلك يرتاحُ من سخافات الكبارِ وترّهاتِهم التي لا تجلبُ إلا الألمَ للأنوف الصغيرة، آه من أمنياتي الخجولة! لمَ لا أتمنى بشكل صريح أن تكون تلك الدعابةُ السخيفةُ هي أداة إزالة الأنف وبذلك لا تتشابك تلافيفُ دماغ أي طفل وهو يكبرُ مختنقةً بالكلمات الآتية: “أنت لا ترى أبعد من أنفك”.
قررتُ ألا أركز على ما حصل منذ قليل في غرفة المعيشة، المرآة لا تكذب وأنفي مختفٍ…نعم، مختفٍ لأنني عندما نزعتُه البارحةَ اختفى، لم أجده في يدي، لم أجده على الإطلاق، وكل مرايا المنزل أكدت ذلك، بيدَ أن هذه التبعاتِ الغريبةَ للموقف الغريبِ أساساً لن تستطيع تشتيتي عن الهدف الأسمى فرأي أخي لا يهمني وأنفي المختفي كذلك، ما يهمني هو عدم وجوده ومتابعةُ حياتي الطبيعية وكأن شيئاً لم يتغير، وهذا ما أحاول القيام به الآن دون أن أعلم ما ينتظرني من مفاجآت في حياتي الجديدةِ هذه.
مضى اليومُ على خير ما يُرام فأبي أيضاً عندما عاد لم ينتبه إلى غياب أنفي، أما أمي فبعدَ أن أنهت عملها ذهبت مباشرةً إلى المشفى حيث مناوبتُها التي تتبادلها كلَّ يوم مع خالتي لرعاية جدتي المريضةِ، إذن…تُؤجل معركة إثبات الذاتِ إلى الغد.
اليوم الثاني:
لم أحتج إلى رنين المنبه كي أستيقظَ مبكراً من أجل تدريس طالبي الصغير، كان صراخ أمي كفيلاً بذلك، استقمتُ بجذعي بصعوبة وأنا أعاني من دوار خفيفٍ وتسارعٍ في نبضات قلبي لهولِ الهرتزات التي صعقَ صوتُ أمي بها رأسي وقلبي، ثوانٍ فحسب وأدركتُ ما يحدث؛ لا بد أنها اكتشفَت أنفي المختفي، أردتُ أن أشرح لها وجهة نظري، أن تراقبني في الأيام المقبلةِ لأُريَها أن لا علاقةَ لأنفي بشخصيتي ولكنها ظلّت تصرخ وتصرخ لذا لم أجد بُدّاً من أن يجري هذا الحوارُ عن طريق الصراخ كما كان يفعلُ الإنسان البدائي:
“أنتِ قلتِ لي إنني لا أرى أبعد من أنفي، والآن وقد اختفى سأُثبتُ أن لا علاقةَ له بمدى رؤيتي، وأنني سأظل كما كنتُ حينما…”
أُغمي على أمي، لم تحتمل رؤيةَ ابنتِها الجميلة بلا أنف، سارعتُ إلى الإمساك بها قبل أن تسقط على الأرض، لم يستغرق الأمر بضعَ ثوانٍ قبل أن تستعيدَ وعيَها وتوبخني –دون أن تعيقَها وضعية الاستلقاءِ في سريري عن عملية التوبيخ-:
“ماذا فعلتُ يا إلهي كي تبلوَني بفتاة حمقاء؟ ألا تكفيني أمي المريضةُ وابنتي الأنانية، والآن هي حمقاء أيضاً! يا ويلي…”
أُغمي عليها مجدداً، شعرتُ بالغضبِ لإحساسي بأن إغماءها متعمَّدٌ وبكونه وسيلة هروبٍ من مواجهتي، تركتها مستلقيةً وسارعتُ إلى تبديلِ ملابسي إذ أكاد أن أتأخر عن موعد الدرس.
بينما كنتُ أسيرُ في الطريق لاحظتُ أن الأطفالَ كانوا يشيرون إلي وهُم يضحكون ويتفوّهون بكلام لا أسمعُه فينظر مرافقوهم البالغون إليّ، يدققون النظر أكثر، ثم يهزون أكتافهم بحيرةٍ ويحثّون صغارهم على الإسراع دون أن يفهموا –ودون أن أفهم أيضاً- ما الذي استرعى انتباههم نحوي، هل يستطيعونَ رؤيةَ وجهي اللا أنفي يا ترى؟
منزلُ طالبي حالُه من حال الشارع، استقبلتني أمه كالعادةِ من دون أي فزع أو إغماء، أما طالبي فلم يكتفِ بالإشارة إلي والضحك أو حتى بالقولِ إنه لا أنف لدي كما فعلَ أترابه في طريقي إليه، وإنما وبمجرد أن فتحتُ الباب سارع إلى رمي الكتاب الذي كان في يده وهو يصيح فرحاً: “فولدمورت”.
يبدو أن الأم قد عاجلَته من خلفي بإحدى تلك النظرات المريبة التي تكبحُ جماح الطفل إذ سرى الهدوء في أطرافه فجأةً واتجه إلى مكان الكتاب المرميّ كي يعيده إلى الطاولة، ابتسمت الأم بلطفٍ وهي تلقي محاضرتها المعتادةَ قبل أن تتركنا بمفردنا حول المواظبةِ على مراجعةِ ما سبق، وضرورة تنبيهها إلى أي تقصيرٍ يبديه ابنها وأمور أخرى لم أسمعها وذلك في انصراف ذهني كاملٍ إلى اقتفاء بهجة مطلقةٍ يضيقُ بها جسدُ طفل صغير في حين أنها تريد أن تنفجرَ وتنسكب، سيطرَ على نفسه، ارتدى نظارته الطبيةَ وهو يقلب صفحاتِ الكتاب، اتخذتُ مكاني المعتادَ على نحو مقابلٍ له، ما إن أغلقَت الأم البابَ حتى نهضَ كمَن لدغه عقربٌ وقفز إلى الكرسي وهو يرقصُ:
-“أخيراً وجدتُ فولدمورت، أنا هاري بوتر وآنستي فولدمورت، سنشكلُ ثنائياً رائعاً في حفلة نهاية العام”.
-“إن بقيتَ ترقصُ فوق الكرسي فإنني لن أعطيك الحلويات والسكاكر”.
نزل عن الكرسي كمَن لدغتهُ أفعى تتدلى عن شجرة، تأملتُ وجهه الصغير قليلاً، يبدو أن ندبةَ جبينه ونظارته الطبية جعلتاهُ مهووساً بشخصية “هاري بوتر” وأظن أن فريق العملِ مكتملٌ لديه ولم يكن ينقصه إلا عدوه “فولدمورت” الذي اكتمل الآن بوجودي.
مضى الدرس على خير ما يرام مع أن عينيه الصغيرتين لم تبرحا المكان الفارغَ في منتصف وجهي وهما تقطران سعادة وأملاً، أربكتني نظراتُه الطفولية البلهاء التي لم تؤثر على اشتعال ذهنه الوقّاد، خطأ واحد فقط وسأحرمه من الحلويات لكنه كان يعلم كيف يفصلُ بين قلبه وعقله فاستحقّها عن جدارة.
أراد أن يسأل أكثر عن “فولدمورته” كيف أصبح “فولدمورتاً” لكنّ هاتفي ثقب الجوَّ برنينه المتواصل؛ إنها أمي فلا أحد يلحّ مثلها، عدتُ إلى المنزل بعد أن تبضعتُ تلك الحاجيات الضروريةَ –على حد تعبيرها- وكلي رغبةٌ في أن آخذ قيلولةً…لا، أكثر من قيلولة…إنه نوم عميق جداً، أعمق من أن يطاله أي حلم لعين.
لم أتمكن من تحقيق رغبتي إلا بعد أن أغرقتُ المنزل بجملٍ مكرَّرة –وكنت أن أغرقتُ الهاتف قبل نصف ساعة- تُطمئِن أمي إلى أن أحداً لم ينتبه لغياب أنفي ما عدا الأطفال، وهي طبعاً أرادت أن تخوضَ جولةً من المواعظ والحلول إلا أنني لا أذكرُ أي شيء منها لأن جسدي صار ذاتيّ التحكم على النحو الذي جعله يتحرك نحو السرير مباشرةً، من المؤكَّد أنها تبعتني وأكملت كلامها فوق رأسي، لكن أنفي غير موجود كي يشتمَّ روائح الاستفزاز وحب السيطرة في مواعظها فغططتُ في ذلك النوم العميق جداً، الأعمق من أن يطاله أي حلمٍ لعين.
اليوم الثالث:
لا بدّ أن أمي تريد مني القيام بشيء عظيم للغاية حتى تفعّلَ خاصيةَ “نبع الحنان” في طريقة إيقاظي وحرصِها على تناولي طعام الإفطار قبل أن يحين موعد الدرس… حقاً، إنه ليس شيئاً عظيماً فحسب، إنه شيء لا حدودَ لجبروته؛ أنا التي لم يمضِ على تخرجي سوى شهرين وأدرّسُ أيضاً، وابنةُ خالتي العاطلةُ عن العمل والدراسة نصبح على حد سواء؟!
سيصبح التناوبُ على رعاية جدتي مثلثاً، لكن لمَ لا يصبح مربعاً؟
-“ولكن خطيب ريم لن يوافق لأن بنيتَها ضعيفةٌ أساساً ولن يطيقَ جسدها النحيلُ السهرَ، وهي أيضاً لا يُعتمد عليها، تصرفاتها كالأطفال رغم أنها تقاربك في السن”
-“إذن هذه هي ضريبة المجتهدِ الذي يعتمد على نفسه؟! أنا أيضاً مرهَقة، وبدلاً من أن أستمتعَ بعد تخرجي وأستعيدَ نشاطي وحيويتي اتجهتُ إلى التدريس لأن حياة الكسل لم تعد تلائمني وليس من أجل أن تُستعمل نقاطُ قوتي ضدي وتعلقوا عليها مبررات استعبادي”
-“استعباد!! أهذه هي مكانة جدتكِ لديك، بل مكانتي لديك؟! أنت فعلاً لا ترينَ أبعد من أنفك حتى وإن لم يعد لديك واحد، ما الذي كنت تحاولين إثباته منذ البداية؟ أنك أنانية في كلتا الحالتين؟ لستِ أنانيةً فحسب بل…..”
-“هذا يكفي، لن أذهبَ مهما قلتِ”
ضربتُ على الطاولة بقوة، اختنقتِ الحروف في حلقي دون أن أستطيعَ رصفها في كلمة واحدة حتى، ربما لأن الكلام يخفق أحياناً في التعبير عمّا نشعر به مع أننا لا نملكُ غيره في مواقفَ كهذه.
انسحبتُ إلى الغرفةِ، ارتديتُ ثيابي بسرعة وتوجهت إلى منزل طالبتي الصغيرة أيضاً، كنت طوال الطريق أدعو ألّا أكون “فولدمورت” آخر في نظرها، ما الذي أتوقعه إذن؟ أن أكون “الجميلة النائمة” مثَلاً، أم “الحسناء”؟…لا …لا، لستُ إلا “الوحش”، أم أنني فعلاً “الحسناء”؟! كأنها ترى أنفي، أيُعقل ذلك؟
مضى الدرس دون أية أسئلة أو نظرات بلهاء، إنها حقاً لا تلاحظ غياب أنفي، ربما كان من الأفضل أن تراه فمزاجي لم يكن ليسمح لي بفهم خيالها إذا ما شبهتني بمسخ كرتوني ما، أو الإجابة عن أسئلتها الفضولية.
-“يبدو أنك وجدتِ أنفك، مبارك لك”.
كان ذلك أول ما قالَته حين عدتُ، ما الذي تتفوه به أمي؟! لا أزال على حالي، حمتُ كالنحلةِ في كل أنحاء المنزل لأتأكد من مراياه، وجهي فارغ في المنتصف، ولكن يبدو أن أمي مثل طالبتي ترى أنفي، فأنا في النهاية لن أذهب معها لرعاية أمها ومشاركتها عَناء السهر، وطالبتي أيضاً علمَت من مصنفي الشفافِ الذي أضع في داخله الكتابَ وأوراقَ التحضير أنني نسيتُ حصتَها من الحلويات هذه المرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ