سعيد بوخليط |
“النوم أفضل نظام صحي مجاني وديمقراطي متاح”*.
منذ سنة 2008، أقرت الرابطة العالمية للنوم الجمعة الثالثة من شهر مارس، يوما عالميا للنوم. بناء عليه، صادف الاحتفال هذه السنة يوم الجمعة 19 مارس.
صار، إذن للنوم يوما عالميا خاصا لتخليد الذِّكر، وإشارة كونية على اتفاق الجميع بخصوص احتضان هذا الاحتياج البيولوجي والانتقال به من البعد الفردي إلى العام. مما يكشف عن الأهمية القصوى لهذا الأمر، عبر إثارة الانتباه نحو البعد المفصلي والحاسم بخصوص كيفية تحديد العلاقة بالنوم ومدى انعكاسات نتائج ذلك على البناء المجتمعي للشعوب؛ إيجابا أو سلبا. ما دامت قوة المنظومات، من سلامة أفرادها جسديا وذهنيا؛ وكذا مستوى توازنهم النفسي والفكري.
بالتأكيد، يمثل النوم، في هذا الإطار مدخلا أساسيا لتفعيل جهاز فيزيولوجي معافى، يشكل وازعا ملائما لتعضيد؛ مناعة الجسم وتقوية الذاكرة وتنظيم إفراز الهرمونات ومجرى الأوعية الدموية والسيطرة على الالتهاب وتنظيم دقات القلب.
طبعا، هناك أعياد تصاحبها بهرجة مبالغ فيها حد الضجر والاشمئزاز، مما يفقدها على العكس من ذلك بريقها، فتغدو مجرد فولكلور أجوف للتهريج. في المقابل، تمر احتفالات أخرى صمتا؛ غفل عنها الجميع، لكنها تبقى ذات إيحاءات أعمق.
النوم كباقي الاحتياجات البيولوجية المباشرة والفورية؛ التي لا تتحمل الانتظار، يأخذ جدواه في اعتداله وتوازنه دون إفراط ولا تفريط، ثم احترام شرطه الزماني وإلا انقلب مطلقا من نعمة إلى نقمة، ومن ترياق إلى داء. وأظنه ضمن قائمة أكثر النعوت التي ارتبطت بمناحي السلبية، ضمن أدبيات الوعظ وصحوة الضمير، وقد اختزلت الإنسان ضمنيا إلى يقظة لا تتوقف وجردته عن مهاوي النوم. فهو دائم اليقظة، ليله مثل نهاره، لن يكون نومه سوى لحظة تركيز عميقة أو بالأصح مشيا خلال النوم، تدبرا لمصيره بهدوء ثم يعيد ترتيب أفكاره بعيدا عن كل تشويش. لأنه قبل كل شيء وبعدها، فالفرد سيد مصيره ولا يلزمه أن يغفل عن ذلك، فالنوم غفلة وفق تحديد السياق نفسه.
هكذا، شكلت اليقظة مصدرا أوليا لمختلف دلالات الحياة والبناء والخلق، في حين فسر النوم جل السبل المحيلة على الموت والجمود والهوان. الحي يقظ، حسب هذا التصور، والحياة يقظة، لا نوم معها وفي غضونها؛ وأيّ سهوة نوم ستشكل هدرا مجانيا لقيمة لامتناهية للزمن يستحيل تداركها.
مناسبة هذا الحديث، أنا من عشاق النوم ومحبي الارتكان إلى سكينة النوم في أغلب الأحيان؛ وضع يبعدني بسنوات ضوئية عن ضجيج العالم. لا أعرف هل مصدر ذلك إرث جيني، لا سيما عبر سلالة عائلة أمي؟ أم تأتى عشقي للنوم، بعد أن تبيّنت نتيجة تجارب الحياة، رحمته وسلواه! أمي صنديدة في النوم، مثلما أذكر سيرة أحد أخوالي بأنه لم يكمل حديثا معي إلا وأطلق العنان لصفير شخيره. كنت دائما حين زيارتي له أتوقع مشهدا من هذا القبيل، ولم يخب توقعي قط.
باستمرار، اعتبرت النوم صديقا صدوقا صاحبني بعطف وحنان طيلة سنوات حياتي يحفظ عن ظهر قلب كل خساراتي وقبلها أحلامي وشكل ملاذي الروحي الذي يتحملني ويحتويني ويمدني بجرعات من الطاقة كي أنهض خلال اليوم الموالي وأستمر. منذ أن اكتشفت حلاوة رحلة النوم، على ترانيم جهاز مذياع صغير من النوع الأرشيفي؛ ملتصقا بوسادتي بحيث لم أبرح قط وصفة هذا الفردوس المفقود.
ماذا أريد ياأخي من هذا العالم، أكثر فأكثر، مع طغيان خرابه وإدمانه بامتياز أشلاءه؟ فليذهب إلى الجحيم، وليتركني في سلام مع غيبوبة نوم لا تقدر بكنوز الدنيا، رفقة مذياع لا يتجاوز صوته أذني ولا يعكر بتاتا صفو جوف الليل، وقد توقفت الحياة تماما إلا من أثير كلاسيكيات الغناء العربي.
تلزم الإشارة، لم تعد علاقتي بالنوم كما السابق، سمنا على عسل، لا أعلم سببا معينا لذلك. ربما نتيجة تقدم العمر؟ أو لأن المتاعب تكلَّست؛ فصارت تخلق لي متاعب أخرى مع النوم. هكذا، افتقدت صدقا ماضي تلك القيلولات الملحمية الطويلة ذات الرقم القياسي، غير القابل للتحطيم، بحيث قاربت أحيانا فيما أذكر خمس ساعات بالتمام والكمال. تباهيت بهذا الإنجاز فترة غير قصيرة خاصة أمام معارف وأصدقاء كابدوا عداوات غير مبررة بحسبهم مع النوم، غاية اليوم الذي صادفت فيه شخصا أخبرني بأنه قضى قيلولة استمر زمنها بعد وجبة الغذاء مباشرة غاية صبيحة اليوم التالي، فتح فقط خلالها بالكاد عيناه لحظة وجيزة مساء لتناول لقيمات طفيفة على فراشه ثم انغمس ثانية في نومه غير آبه بما يجري حوله.
إذن، انقضى بالنسبة إلي عهد حكايات من هذا القبيل، ثم مختلف ما يندرج ضمن مقومات النوم الصحي مثلما تنص عليه مقررات الرابطة العالمية للنوم؛ أهمها الإسراع إلى الفراش قبل الحادية عشر والاستيقاظ باكرا، وكذا الامتثال لغفوة ظهرا، لا تتعدى مدتها خمسا وأربعين دقيقة ثم تجنب بعض المشروبات ليلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ماثيو، أستاذ الأعصاب وعلم النفس في جامعتي كاليفورنيا وبيركلي.
مجلة قلم رصاص الثقافية