أقبل.
الخطى مستقيمة، قصيرة، سريعة، تخفخف على صفحة المعبّد المجدور. طرفا البنطال القصير يصطفقان فوق كاحليه على رقصة المشي الهرْوَلة، وإلى ما بعد المرفق بثنيّات باهتة اللّون يتعالى كُمّ السّترة، وتنكمش قماشته عند منعطف يد دأبت ترفع على سارية السّاعد جريدة مطويّة لا تُستبدل حتى ينتشها القِدم وتتفسّخ أخبارها الفاترة.
اِعتاد النّاس على رؤية عثمان يلتهم المسافات رائحا، غاديا، مستعجلا أبدا، لا ينقطع متحدّثا منفردا متعدّد الشّخوص. يجسّم أحداثا تعتمل برأسه بيد واحدة، ويلوّن صوته على مقاس القائل المضمَر بداخله، فيعطي لكلّ مقال نبرته الحميمة، ولوجهه التّعابير الملائمة حتى لم يفطن أحد لخطورة ما كان ينطق عنه إلاّ متأخرا..
” إذا ما استويتُ على الكرسيّ رئيسا سأعمل أن أبعث صحيفة أبلغ حريّة من هذه( يقصد الجريدة التي بيده) لتعبّر بلسان المنظّمة عن هموم المتسوّلين ومشاغلهم. كما سأطالب إلى منتهى الأرْماق في نفَسي وسكتة القرقرة بأمعائي الجوعى جلّ مقاهي المدينة أن تفسح في جوانب من الأرصفة المحتلّة فسحا أسبوعيّا يخوّل لمُدراء فروع المنظّمة ومسؤوليها ونُشطائها المثقّفين من عقد الاجتماعات قصد تدارس الأوضاع والتطلّعات والأحلام، وعليه، واستثمارا لكلّ موارد الصّدقات المتاحة يتوجّب على مقيمي الولائم الفاخرة والمتوسّطة إبقاء بعض الثّمر القابل للقضم على ظهور النّوى، وطُفافات من المشروبات قيعان أوانيها تفي بشيء من السّكر أو ماشابه، وأكثر بقليل أو حبّذا بكثير من الفُتات بالصّحون لتخفيف عبء الاحتفالات على ندوات المنظّمة ومناسباتها.. الله.. الله يا عثمان..”
تبسّم البَله على القحط في شفتيه فاستضاء صدأ الأسنان وذاع خَلُوف الفم يردّ امتنانا على تحيّات المارّة..
“سيكون لي أن أحظى كرجل أوّل في المنظّمة بما يفوق الثّفل في كوب القهوة وأفخرِ أكياس القمامة. أنا الأحقّ بذلك.. أنا الرّئيس..”
جهَم. سقطت خاطرة نابية في نفسه الرّاكدة فتجعّد محيّاه وترمّدت بسمته. كلّما بلغ “الحاءَ” من الحلم وتبرّجت في الذّهن تبعاته اللّغويّة خشي شديدا على مقعده المغري من جيل المتسوّلين القادم..
” الحُسّد الحاقدون.. سيكونون حتما من مُمْتهني ثقافة السّلب المُعوْلم ومدّعي المعرفة من حاملي الشّهائد العليا والدّنيا المرسّمين في العَطل والتّسكّع.. جيلئذ، لن تدوم رئاستي أكثر من ثروة متواضعة وشهرة محليّة.. بِئسا، تبّا، سحقا، ألا يُغنيهم أنّي إنّما أتكبّد ارتقاء رؤوسهم لأنّي الأجدر بالتّفكير عنهم..”
ِاستعرت حمرة عينيه. أزبد الغضب على مفرق شفتيه وطاشت منه شتائم ولعنات أثارت حوله مُلَحا وأهاجت عليه عبسات.. خاض معركة انتخاب وهميّة أبهجت سنّ الصّباح المصطكّة وأوقدت بالضّحك مفاصل الشّارع الكسلى. كان قلبَ الحركة المبكرة الفاترة يتخلّل أبخرة الأفواه وزعيق السّيّارت، يندّد بما لا يفهم مستمع، يطالب، يعارض، يلْكم أشداق الهواء، يعرقل أقدام خيالات تعاركه.. ثمّ أطلق حذاءه المثقوب للجري مروّعا من فكرة حشدت عليه مهالك ليس غيره يعرفها..
وقف.
أبعاد مختصرة إلاّ شعرا كثّا يقِفّ مكوّما على وجه مصهود عرِق، وحضور مضطَهد في ثياب ضيّقة تمنع عن جسمه اللاّهث أن يغْنَى بشيء من الشّحم فيبقى عاريا دون وليّ كسوته النّحيف.
تقلّب رأسُه ذات الأنحاء منفعلا.. كانت نفسه تتخلّص هنيهة فأخرى من أعدائها المفترضين لكن.. أيّ مظلمة أن لا يعبأ له أحد من هذه الوجوه الدّواخن، والأبدان الهَزْلى والقلوب الغُفل..؟ ” ألا يعنيهم أن يكون لكلّ متسوّل، على سبيل التّمنّي، بطاقة هويّة خاصّة تخوّل له التّنقّل بين المدن المحليّة والخارجيّة مجانا، وتكفل له حريّة العمل في الشّوارع الفخمة وعلى البوّابات المحصّنة، وحقّ الظّهور العلنيّ في مراسم استقبال الشّخصيّات الوطنيّة والعالميّة.. ؟”
عقب سيجارة ما تزال جثّتها منذورة لزمن رديء من الاشتعال هو ما أجبره على التّوقّف واعدة إيّاه بشيء من الهدوء. اِنحنى مسرورا يلتقط فضلة التّبغ. قلّبها مُضَيِّقا عينيه. اِمتصّها مطفأة يملأ صدره هُراء ثمّ زَوَا حاجبيه، وزمّ شفتيه يلخّص أفكاره..
“ترفّق بمن لا يعلمون يا منقذ الهوامش من الضّلال. ما هي إلاّ ساعات قلائل حتى يبشّروا بالنّعيم العاجل..
عثمان، يا عثمان، توخّ الحكمة في طرح القضيّة وجمع المؤيّدين وضرب المناوئين. اِسمع، لتكن أوّل المطالب الموجّهة لعامّة السّائلين أن يلتزم الموسرون بوضع بقايا محترمة من الأطعمة مصنّفة غير مخلوطة ولا ملوّثة في أكياس بلاستيكيّة نظيفة، تُلقى في حاويات خاصّة لتفادي النّزاعات الحادّة بين الوحوش السّائبة من جهة والمتسكّعين المبتدئين من جهة ثانية. هذا إغراء كاف لحشد القاعدة مبدئيّا، هل هناك أفضل من طعام مصنّف على قدر من النّظافة والدّسامة..؟
أمّا لخاصّتهم فإنّه يتحتّم على الكاسين الشّاربين الشِّباع ترك مارْكات المطاعم والمشارب والملابس ومحسّنات الأمزجة على الفواضل ليتعرّف مثقّفو الأرصفة ومستنيرو السّؤال إلى نوعيّة الموادّ المستهلكة ومصادرها قصد تمكينهم من المشاركة الفعّالة في حركة التّطهير العالميّة، واتّخاذ المواقف الملائمة في حالات الحظر البيئي على الأحياء النّظيفة الجَحود، والحصار المعيشي على شحّاذي الشّغب الهدّام..
مذهل.. مذهل أنت يا عثمان.. نابغة تحت الأسمال وفوق مجالس الاسمنت المُثْلج ومفارش الشّظف اليابسة.. غدا يعلمون أيّ عثمان أنت يا عثمان..”
عابرٌ شفيق أشعل له الجثّة الباردة. سُرّ بقدحة الوهج بين أصابعه. مزّها بالْتذاذ وعين زوْراء ثمّ استأنف سيره المهلهل موغلا في زُخْرُف خواطره وأزقّة الحيّ.
وقف المرّة حيث يجب.
كانت الخِرب من حيّ السّؤال متهدّمة الأركان كأفواه دقماء لعجائز وشيوخ تداعت بهم الرُّكَب، نجوا من الغرق بقدَر ما، وجلسوا عند مصبّات المياه المغلقة يحاكمون المطر الهطِف ويلوكون هُدْل الجلد من أحناكهم..
تغضّن جبينه المغمور شعرا متلبّدا يتأمّل بقايا العاصفة. تمتم يستنتج جزْما أنّ مَلَكة الخلق في الأفكار المنقذة تحتاج دوما إلى فتنة الدّمار المُبدع يصنع الوعود من الفواقر الجائحة، ولَزب المراقد تحت الجنوب الخاوية الطّاوية الوسخة.. لا يسع الأفكار الكبيرة إلاّ أن تمشي على الجماجم وكسر العظام وأطلال الحياة وقد استهلكها الكبار حتى الرّمق الأخير..
“عثمان، اِنتبه لموطئ القدم أن تزلق في الغفلة أو رديفها الاطمئنان.. كلّما اعتلت الأفكار المنقذة رقاب الواقع البسيط توهّجتَ تُجْلي لبقايا النّاس من تحتها آيات الخلاص الأخيرة..”
اِنتشى. اِنتفج. قطّب. اِنبسط. تمطّت شفتاه تلاحقان السّيجارة المنتهية قبل أن تجْهَز آخر نقاط ورقة التّرشّح التي سيعلنها بعد حين.. يريدها سحرا ينشر فوق الرّؤوس غشية العجب على قدر نبوغه النّادر، وشخصه المنحرف عن عادة المترشّحين في البلاغة الرّساليّة.. ضربة ناسفة لكلّ من يسوّل له الطّمعُ منافستَه على مقعد الرّئاسة أو حتّى تشمّم مغانمها..
“..لا. قطعا. أنا لم أهمل مسألة التّعويض المادّي عن الخسائر المنجرّة عن شدّة انحدار السّماء والمدينة عند مستوى حيّ السّؤال تحديدا.. الخسائر الماديّة المنجرّة عن عاصفة الأمس أشدّ من فادحة.. لكن..
كم مالا يكفي مُدمنا على طلب المال ليقلع عن لجاجة الطّلب..؟ ليقلب يده المبسوطة ظهرا على كفّ الذّلّ..؟ كم؟ ليقترِحْ أحدكم.. كم؟ أنا أقبل المقترحات الصّائبة أو بدائل الصّواب، لكلّ الحقّ في الرّأي يُبْديه أو يُخْفيه كلّ بحسب الكياسة التي لديه، وعليّ لزوم ما يلزم المصلحة العامّة بعد الخاصّة.. تحرّروا من تقيّة المعاني. لكم مطلق الحقّ في التّعبير.. ” فقط إلى حين..”(.. الجملة الأخيرة المسوّرة بأظفار غليظة، كانت عبارة قلبيّة من غيب الفعال، ومستور النّوايا، وشهادة الضّرورة..)
هيّا قدّروا أنتم بدل الطّعن في صلاحيّتي للمهمّة المصيريّة..
قد يغنيني مثلا، كفنّان في الشّحاذة برتبة متسوّل سابق أعايش الطّبقة مآسيها اليوميّة، طبق طعام شهيّ كثير لحمه بارق شحمه عن طرق الأبواب قبل الوجبة التّالية، أو تكفيني كسوة على مقاسي الحقيقيّ ودثار نصف حنون فلا أُلْحف في السّؤال مدّة ما.. لكنّ رزمة أوراق نقديّة لن تحملني أن أتعفّف. كيف أتعفّف عن طلب المزيد..؟ كيف..؟ هه.. كيف..؟ إنّه المال.. المال يا هؤلاء، نطلبه لذاته، للهسيس في ورقه والرّنين في قطعه، ورائحة الرّغد المستعصية على التّوصيف في حوافظه.. هو ذا المال، مفردة مستبدّة في اللّغة لا تحبّذ التّعريفات ولا النّعوت ولا الإضافات الرّكيكة.. يظلّ المتسوّل بعد أن يُعْطاه طالبا مضجِرا يحتمل الزّجر والنّهْر على أن ينفق من مال اكتسبه بيُسر ودون أن يدعو لأحد بخير لا يرجوه له أغلب الدّعوات المرسلات..
ثمّ من أطالب..؟ قولوا.. من..؟ العالي أم السّافل..؟
السّماء نفسها شريكة المدمّرِ الأرضيّ، حليفة المنكِرِ.. أليست أغارت سُحبها الغادرة ليلا وأنكرت شمسها بالنّهار الغارة..؟ هل سمع أحدكم منزلا مرموق الرّتبة جرفه تيّار الماء؟ هل شاهدتم حيّا ترِفا أُلقي على جرف هارٍ أو مجرى فيض عميم فانجرف، وأهلُه حفاة يخوضون الماء التّرب خلف الأثاث والمُؤن..؟ أنتم تقطنون مدينة جائرة أيّها الرّفاق. مدينة يلذّ لها في لحظة من نزق السّحاب أن تلقي أحياءكم هذه إلى الوحل تسبح فيه. فنجلس نحن على شطآن الطيّن المائع نرنو إلى أفق تسنّه، ونصطاد ما طفا من متاع الأحلام.. هذا يسحب آخر همسة لفظها قبل أن يفيض عليه الماء، وهذا يتصيّد خيباته الغرقى، وتلك تجهد في سحب ما أجهدت الجيب في جمعه يفرّ منها على ظهر الحمإ، وهؤلاء كأولئك أبصارهم خاشعة.. حتى أنتم منافسيّ الجشعين تتفّقون على الطّرف الأوّل فتكيلون له الثّوْرات الشّنيعة والتّهم النّكراء وتخرجون عليه بالعصيان والكفر، وتختلفون في تعريف الطّرف الثّاني متحاشين ذكر الأسماء..
حسنا. حسنا. لا بأس. عثمان يقول إنّ الاستمراريّة تقتضي كثيرا من التّنازل. هذه الحقوق تأتي في مرحلة ما بعد التّأسيس، والأجدى مبدئيّا تجنّب أيّ مطلب نقديّ صريح يؤلّب على مستقبل المنظمة المانحين وهوّاة الألعاب الخيريّة ومديري المغاسل العالميّة للأموال.. هاه..؟ ما رأيكم..؟ أفحمتكم..؟”
تقدّم بعدئذ منشرحا، بطيئا، رصينا، يقدّم صدرا ويؤخّر رأسا. ثمّ تقصّد جرّ قدميه مثيرا أنين المواطئ الجريحة. ضمّ الجريدة إلى قلبه. قضم من خبزه الجافّ قضمات متتالية سريعة ازدردها بلا تمعّن في طعمها المغمّس بوسخ اليد الحرّة. فطن فضول النّاس من حيّ السّؤال لمشهده الغريب. اِزدهى مستَفَزّا ببضع عيون تنتبه إليه. تصفّح الجريدة. أشرعها. قطّب جبينه يقرأها بانشغال. طواها بغير إتقان. تأبّطها منطوية على قطعة الخبز الباقية. خطا مطرقا. صعد بِهَمٍّ وقور سُدَّة أنهك اليومَ الحارّ يسوّيها من جِدّ التّعب مرتفعا خرِبا يليق بما تمخّضت عنه قريحة الخُطب: مصطبة واطئة من كِسَر الجدران وقطع الآجرّ المنخورة، تسقفها صفحة من القصدير نزحت بها الرّياح عن مسكنها القديم.
على قعقعة المنبر تحت قدميه، صار وجوده المضطهَد يعتلي الأسماع المنصرفة، ويشرف بجديّة الأفكار الخطرة على القاعدة من ذاكرة العاصفة: فِرَدُ أحذية غرقت عن أقدامها، أخلاق أثواب تنقّعت في بطون الحفر الموحلة، حشايا مبقورة انتفجت، فُرش موحلة تكوّمت، قدور كحلاء تناثرت، سقوف نخرة ارتكنت على جدرانها، مساء أشيب يجتاح السّماء، يتكوّر على كاحل النّهار المُدْمى وينثر بياضه المصقّع على أشفار الأحياء والجوامد..
كانت مجمل المشاهد في الحيّ المتهالك تستجيره، بل كلّ مشاهد العالم المُهْلكة تستجيره..
” أنا آت يا شحّاذي العالم..”
لكنّ التردّد يربكه بعدُ.
“المهمّة معضلة وهؤلاء فئة تُزري قيمة الانضباط ولا تمتهن الصّبر إلاّ على وضع مهين..”
حمحم يوشك ينفث رئتيه لأجل أعناق قليلة الْتَوَت تنظر ناحيته متفاكهة ساخرة. كان ذلك وقت يؤوب أغلب السّكان إلى الدّور وأشباه الدّور ومثاوي الخلاء. سحب الجريدة من تحت إبطه في عصبيّة هادفة. سقطت قطعة الخبز عند قدميه. اِجتهد ألاّ يهتمّ لها بينما تعلّقت بها بعض العيون تتحيّن اختطافها.
غمغم يقرض شفتيه أسفا..
” ليأْكلها أحدهم. لا بأس. كلّما نشفت حفرة من الماء أينع في قاعها الجوع. عَلَيّ أن أزدري اللُّقم الصّغيرة لأغنم الشّبع الأكبر. كنت دائما أعْلَمَهم، وكانوا لفرط جهلهم يظنّون بعقلي الفذّ الجنون.. غدا تردّد أصقاع الدّنيا اسمي ويُرَشّ عليّ فتات الخبز أينما حللتُ.. “
بدا هناك، في مرتفعه من السّدّة أعقل ممّا يجب وأدهى ممّا يُحتسب. يروز صغائر الأحداث بِعَتَهٍ مقيس وبلاهة ماكرة، ويستزيد هزء الحاضرين ليحشدهم حوله مصيخين..
حين عجّ محيط السُّدّة بالسّاخرين المتندّرين، رفع واجهة عينيه، أعلى رؤوسهم، الجريدة تبرق تحت الشّمس الغاربة صفحاتُها المضمّخة زيتا. اِرتجل غِمار الجلبة الشّعواء مرثيّة منمنمة الأحزان والمآثر تنعى الفقيد عبد الكريم شهيدا، مُبْتدَعا، عصيّا مَثيله على وعي الأرصفة وذاكرة الشّوارع، كان سافر إلى نهايته على متن الماء الوسِخ إلى ظلمته مكفّنا في ثوب العرس، وشيّعته جنازة موحلة الأقدام باردة الأدعية..
أخذت الغوغاء في الخَبْوِ جملة ماطرة فأخرى.. أدرك الضّاجّون بعض المعاني المبهمة فأخفضوا الضّوضاء شيئا من الاهتمام يتذاكرون افتراءً مناقب المرحوم ويتكلّفون الإنصات حتى شفير النّعي..
-رغم رثاثة عقله، يقول هذا الـ”عثمان” كلاما غاية في الكذب المزركش يدفئ العُفونة في قبر الميّت المدفون جوف الماسور..
عندما سكت مختبرا وقع الصّفحة الأولى من خطّة الترشّح المنفرد لرئاسة المنظّمة، اِنشقّ الهدوء المُخاتل نواحا مغنّى على وزن الحزن المتداول في المدينة. مدّدت المتسوّلات النّائحات زمن البكاء المقفّى مستميلات قلوبا مقفلة دون مألوف الغوائل، مستدرّات بريق الدّمع من عيون ناشفة..
اُستثير عثمان بالإعجاب النّائح وبذيء المديح. اِستضاءت قترة عينيه وميضا. رعش رأسه متوتّرا. العقبة الأولى ذلّت بحفنة من كلمات متبرّجات زيفا، جعلت الغرق في فضلات البشر فضيلة تسترعي قرائح المراثي البديعة وهيّأت للخطيب، من لحم الميّت النّتن، مقعدا شرفيّا وثير المجلس والجانبين..
تربّص بفخره يستعدّ للمرحلة الأخطر. تنفّس عميقا فارتفعت مقدّمة السّترة الضّيّقة وتعرّى أسفل بطنه الطّاوي. أخذ يتسوّل الصّمتَ الشّحيح ويتوسّل الهدير المائج بعض الإصغاء بحركة متّزنة خافضة رافعة من يديه وجذعه دون أن يظفر بأذن واحدة منتبهة. صرخ.. لعن.. سبّ.. لوّح بقبضته المهزولة. هدّد ببطشه المدّخر. لطم الفضاء، ركله، لكمه.. تحرّك مضطربا على منبر راجف.. اِختلّت موازينه.. علِق طرفٌ من بنطاله بحافّة منبر القصدير المسنّنة فكُبّ وجهه في نُقرة ماء تتنقّع فيها ثياب أهملتها الرّياح هناك.. لذعه برد الماء ورجفة الهُويّ. تداعوا عليه يضحكون ماجنين مستهزئين فضحك الرّئيس المقبل من بلاهة المرؤوسين وحمقهم.. تمرّغ في مسقطه يتضرّج بالنّصر المترب والثّراء الحمئ والرّغد المنقّع في بِرك الحيّ المتسوّل.. لا يسلم الفوز الأخير من سقطة نضاليّة بداية الطّريق تفتتح المجد القادم.. غدا يعلمون..
نهض باليَ الحال مسفوع الوجه. نضح شحوبه مُشْرَبا بدكنة كئيبة. نشّف وجهه بجانب من سترته البليلة. اِستقام عرض الضّحك المتعالي يبتسم ويؤرجح رأسه بالتّحيّة لأكفّ الهزء العابثة بأفكاره الكبيرة، ويتواضع لمنتخِبيه رئيسا للمنظّمة بتفويض رسميّ من نفسه وتزكية الجلبة.
عاد يرتقى المنبر من جديد مشوّش الحركات. سكتوا ينصتون له استزادة للعبث. صرّح بجدّيّة خطرة وصوت أبحّه الصّراخ:
– أيّها الزّملاء الشّاقون، يا أيّها المتسوّلون الأبرار المهملون، تصفيق لو سمحتم..
وزمجر في نفسه “هُمّج جُهّل لا يعرفون أدب الاجتماعات الهامّة ولا قدر الكبار” ثمّ ابتسم بتعال يستمرئ تصفيقه لنفسه ويستدرك الفاتحة المختلّة مضيفا للمنادى مؤنَّثَه..
– أيّتها الزّميلات الشّاقيات المتسوّلات البرائر المهملات، باسمي الذي تعرفونه “عثمان” وأسمائكم و”ـكُنَّ” الملفّقة حتما، وخاصّة باسم مخبزة “الرّخاء” التي تؤمّن لي يوميّا رغيفا كاملا مجانا، ومقهى “السّعادة” تُفسح لي في حافّة الرّصيف الملحق بها أترشّف هانئا رائحة القهوة وأعدّ صدقات الزّبائن..
هيّا صفّقوا لـ “الرّخاء” و”السّعادة” من فضلكم و”ـكُنّ”..
صفّق المرّة أيضا منفردا بحرارة مستهترة. وحده المتعاقد معهما على مبدإ الصّدقة الجارية.
– إنّني أُعلن اللّيلة على شرف الفقيد العزيز عبد الكريم عميد الغرقى والموتى المركونين على المصاطب الباردة والزّوايا المظلمة، شهيد المطر الوبيل والحيّ الممدّد مجرى وادٍ مطمور.. أعلن لكم، عذرا أيّها الحاضرون والحاضرات، صبرا قليلا، قبل التّصريح بالإعلان، أقول ثمّ باسم وريثة ماله الشّرعيّة، أرملته ما قبل الدّخول، مناضلة الشّوارع الأولى، السيّدة رفيقة. تصفيق حارّ للسيّدة رأس المال، عفوا السّيّدة رفيقة. أين أرملة الشّهيد؟ لتتقدّم أمينة مال المنظّمة القادمة. أفسحوا لها المجال أيّها السّيّدات والسّادة.. ولشقيقه أيضا، دعوه يتقدّم بسلام. اِرحموا عماه يرحمكم إرثه من أخيه.. سأعيّنه ناطقا رسميّا باسم الرّئيس..
رفرفت عيناه تلقاء رفيقة.. خفقت حولها راية المستقبل الماجن يزدرد أحلامه الاستباقيّة يكاد يغصّ في ريقه..
“سأتّخذها وكيلا عاطفيّا عن جسدي المدقع، وأولّيها بدل أمانة المال التي ستكون تحت سلطتي المباشرة وزارة الشّؤون العاطفيّة وارِدها وصادِرها وأرباحِها طائلة المتعة..”
خفّ يلجّ في استقبالها. تقدّم نحوه الجميع ضاجّا هائجا فهلع واستجمع شجاعته في ترويضهم. تراجعوا عنه باتّفاق حدسيّ خبيث يصفّقون رفقا بعقله المعطوب وتمديدا في زمن المُزحة المثيرة. لم يجد حينئذ إلاّ أن شدّ الجريدة لإبطه وانبرى يترجرج ويضرب كفّيه بعمه وانفعال ومنبر القصدير يطقطق تحت قدميه ويلاعب قطعة الخبز عشاءَ ليلته الوحيد..
– أيّها الإخوة والأخوات شكرا، شكرا. اِسمعوا أدام الله لأكفّكم الانبساط ولألسُنكم سلاسة الدّعاء. إنّي أُعلن الآن رسميّا وبعد أن أرضيت الجميع، تأسيس منظّمة الرّفق بالمتسوّل التي ستعمل جاهدة على قتل الجوع قتلا(صراخ) ونفي العراء شتتا(..وتصفيق)، وتبديد الحفا بددا(..وتصفير)، وتمزيق الخصاصة إربا(..وشتائم قاذعة)، وتلبية ما يتيسّر من المطالب التي ستُطْرح عليكم والحاجيات التي ستُتْلى لكلّ..(..وعبارات استحسان نابية..).. لكلّ سائل محترف أو متربّص أو وقتيّ ينخرط في المنظّمة ويساهم في نشاطاتها سواء أكان من متسوّلي هذا الحيّ أو من إخواننا في الأحياء المحليّة والعالميّة..
مهلا، مهلا، الخير قادم على يديّ.. تأمّلوا الآن هذه المقترحات والمطالب..
هه.. من له اعتراض..؟ أو.. إضافة ؟ أو سؤال..؟
لا أحد..؟
لا أحد. حسنا. اُصمتوا الآن تماما ومن يوافق منكم على هذا المشروع المعيشيّ الضّخم يرفع صوته..
كانت الفوضى أكثر الحاضرين فهما. منحت المشروع وهم التّأسيس ورأَّست المترشّح الوحيد بالأغلبيّة المطلقة قبل أن تتدخّل الشّرطة لفرز الأصوات الهادرة ..
تفلّتت الحناجر من دهشة المعاني وتفجّرت هرجا محموما، وشتائم رذيلة، وصياحا همجيّا مزّق سُدول الضّباب المرتخية..
تطايرت عمائم ولُحُف وعلب ومطاريق من خشب ومعدن وطرابيش.. اِرتطمت أجسام بالحيطان القائمة على خراب، وبالرّؤوس والأبدان والأقدام.. تقارعت قدور وجفان وهراوٍ وكِِتَفَة.. اِحتدم عراك بين رجال اختلفوا في اقتسام الأحياء المرفّهة وتوزيع الأكياس المأمولة والصّدقات المشروطة حسب ما طالب به الرّئيس.. تسابّت نساء.. تشاددن من شعورهنّ ومزّقت بعضهنّ أسمال بعضهنّ بعد أن لم يتّفقن البتّة على إعادة توزّعهنّ على ربّات البيوت الكريمات والعائلات السّخيّة..
خرج عثمان من تحت سقف الضّباب الكثيف صباحا رجِفا حثيث القدمين وهُدْل البنطال المشقوق تخفق على الكاحل العاري وتتدلّى على سارية السّاعد مِزق السّترة والجريدة. نجا “بعقله الفذّ” من ضرب مبرّح نال من رفاقه البارحة..
لم تردّ رفيقة تحيّته. تجاوزته بإهمال حقود على غير ما اعتاد. هذا المدّعي جنونا كان يخطّط لسرقة مال انتشلته من عبد الكريم عندما كان يغرق.. ما كان لها أن تضيف لصفاتها الشّوْهاء نعت الأرملة بلا أجر.. ألقت بنفسها غمار الماء المتحدّر قويّا. أدركت سترة زوجها المنسحب إلى جوف المدينة، كان يربط ماله في كيس إلى جنبه ويستمسك شديدا به. اِنتزعت الكيس عنوة من المنيّة الشّرسة ولم تبذلْ لزوجها جهدا ينقذه..
“مخبزة الرّخاء” لم تتصدّقْ عليه هذا الصّباح بخبز يومه ولا سَمحت له “السّعادة” بالجلوس على حافّة الرّصيف المعتاد لارتشاف رائحة القهوة.
ذاع اسمه في الأنحاء كافّة معتوها بعقل مخيف وأفكار عاصفة كادت تجعل من نزق الجنون حركة دفاعيّة غائلة ” تثقّف سلوك الابتزاز العاطفيّ القائم على تقنية الدّعاء وحبكة الإلحاح التّقليديّيْن لدى المتسوّل العامّيّ البسيط، وترفعه إلى مستوى التبجّح بالحقوق وإملاء المطالب على المتصدّقين ذوي القلوب الرّحيمة..”
لكنّه لا يعبأ بما يعتقدون. في كلّ منعطف جريدة ملقيّة يرفعها على سارية السّاعد ويمضي وجهة حلمه. يوقن فوق علم هؤلاء أنّه سيغدو يوما ما رئيسا فعليّا لشيء ما يؤمّن طعامه وكساءه وتبغه ومأواه وامرأة خياله..
مجلة قلم رصاص الثقافية