الرئيسية » رصاص ناعم » غواية التّرحال بين قرى الحكاية وعوالم القصّ في “قرية بوتيرو” للتونسية لمياء بوكيل

غواية التّرحال بين قرى الحكاية وعوالم القصّ في “قرية بوتيرو” للتونسية لمياء بوكيل

د. فتحي بن معمّر  |

1- على باب “قرية بوتيرو”:

حين ينتهي القارئ من جولته الطّريفة في “قرية بوتيرو”، المجموعة القصصية الصّادرة عن دار الآن ناشرون وموزّعون بعمّان – الأردن سنة 2020 للقاصّة التونسية لمياء بوكيل قد تتلبّس به حزمة من الأسئلة: هل يمكن تنضج تجربة القاصّ دفعة واحدة وأن تنبجس كفطر بريّ يخترق التّربة ويطفو فوق سطحها متمعّشا من النّور والشّمس؟ أم أنّ التّجربة القصصيّة تتطوّر وتظلّ باحثة عن هويّتها الخاصّة وبصمتها المميّزة من مجموعة إلى أخرى، بل من قصّة إلى أخرى في نفس المجموعة؟ وهل يمكن الحديث عن اكتمال تجربة قصصية ما ونضجها سواء كان القاصّ قيد العطاء أو قد تخلّى عن الكتابة أو رحل عن هذا العالم؟ لأنّ هذه المجموعة القصصية بقصصها الاثنتيْ عشرة، تطرح مجموعة من القضايا الفنيّة والمشاغل والتيمات المضمونية فضلا عن لباسها الحكائي القصصي الأنيق الذي لا تقيم فيه صاحبة النّصوص على نمط أو شكل بل تزاوج فيها وتمزج بين أساليب عديدة وتستحدث بُنَى وتسعى لتجريب مطّرد من نصّ إلى نصّ بشكل لا شكّ أنّه مقصود فكانت المجموعة قائمة على تنويع في الشّكل والأسلوب والمضمون ينبعث من رؤية فنيّة مقصودة أيضا وهذا ما يُستشفّ من خلال العناصر التّالية:

2- التصديرات متن سابق للحديث المحكي:

يلاحظ القارئ كثرة هذه التّصديرات من ناحية والتّكثيف في معانيها ودلالاتها من ناحية أخرى سواء تلك التي صُدّرت بها المجموعة ككلّ أو تلك التي صُدّرت بها القصص منفردة.

وقد صُدّرت المجموعة بخمسة تصديرات لكتّاب مختلفين أربعة أجانب وواحد عربي.

أمّا الأجانب فهم: برانكوشي[1] وهو فنان ونحّات روماني ومونتاني[2] وهو كاتب فرنسي وكافكا[3] وهو كاتب تشيكي يكتب بالألمانية. ورولان بارت[4] وهو ناقد فرنسي من أشهر نقاد القرن العشرين.  أمّا الكاتب العربي فهو سعيد الكفراوي[5] وهو مصري من كتاب القصّة القصيرة. وإذا ما تتبعنا مضامين هذه التّصديرات مرتّبة وجدنا المعاني التالية:

–  دعوة لتأمّل الأعمال الفنيّة وقراءتها بعمق (انظروا في الأعمال حتّى تروها – برانكوشي)

– الكتاب كشف وتعرية للذّات أو قد تكون تعبيرا عنها (إنّها ليست حركاتي التي أكتبها، إنّه أنا، إنّها ذاتي – مونتاني)

– معاناة الكتابة بين المكنون والمضمون (يا لليد الخرقاء التي تأبى أن تنسجم مع كلّ ما أضمره – كافكا)

– الكتابة تنفيس وإسقاط وتعبير عن الأنا (إنّ ما تكتبه يشير إليك ويدلّ عليك – سعيد الكفراوي)

– النّص ينمو ويزهر بالقراءة لا بغيرها (إنّ ما قيل لا يستطيع أن يعيد نفسه إلاّ إذا ازداد – رولان بارت)

وهذه التّصديرات ربّما تلخّص رؤية الكاتبة للفنّ ومذهبها في الكتابة وروحها العفوية التي تُستشفّ من طبيعة الإسهاب في جلّ القصص إذ يبدو أنّها لا تكتب إلاّ متى كانت رائقة المزاج منطلقة اللسّان والذّاكرة، طليقة القلم، حرّة الفكر. وهذا ما سيلمسه القارئ بجلاء وهو يرود بين ردهات القصص. فهي على ما يبدو من ظاهر الحكي وتجاويف القصّ وقاع الرّمز تكتب في نفس الوقت نفسها وتصوّر مجتمعها وتنتقد بعض ما يعتريه من وصَبٍ من ناحيّة كما تؤسّس أو تحاول أن تؤسّس لرؤية جديدة في الكتابة وبصمة تنزوي إليها وتنفرد بها من خلال المزج بين مدارس وتجارب عديدة، ومن خلال قارب التّجريب الجّموح.

وهذا ما سيتّضح من خلال التّصديرات التي وضعتها لكلّ قصّة منفردة. فكيف وزّعت هذه التصديرات؟ وإلى ما ترمي من خلالها؟

صدّرت الكاتبة القصّة الأولى بعنوان “شركس” بقولة لمحمود المسعدي ذات نفس قرآني أو كتابي مقدّس “ألا قلْ ويلٌ للذين يموتون ولا يبعثون” كما صدّرت القصّة الثانية “كرمة شهلة” بقولة لنفس المؤلّف غير أنّ التصدير وإن لم تكن له علاقة بالبعث والحياة فله أكثر من علاقة وسبب بما يجمّل الحياة ويعطيها معنى إذ تختار أن تصدّرها بـ “أكلّما تمرّد شيطان في إنسان، قامت له امرأة نبيّا”. في حين فضّلت أن تصدّر قصّتها الثّالثة “جسد” بتصديرين لكاتبين غير عربيين الأوّل قول “جورج برنار شو”: “نُعلّم أنّ الرّوح هي الجسد وأنّ الجسد هو الرّوح، يقولون لنا أنّهما مختلفان، ليقنعونا أنّ بإمكاننا الاحتفاظ بأرواحنا إذا ما تركناهم يستعبدون أجسادنا ” أمّا الثاني فهو لـ “جوزيه جيلبرت هولاند” جاء فيه “عار على الجسد أن يسقط صريعا، بينما الرّوح ما زالت تقاتل” والغريب أن تتّخذ تصديرين لكاتبين غير عربيين في نصّ يعالج إحدى أعقد القضايا والعادات في المجتمع العربي وهي قضايا التحقّق من العذرية في مجتمع يبسط سلطته المطلقة على الجسد ويزدريه. بينما تفضّل أن لا تصدّر النصّ الخامس “حب الصنوبر”. أمّا نص “غربان” فقد صدّرته بقول لمي زيادة “كلاّ، كلاّ، لا ظلام في الحياة وإنّما هي أنظارنا الكليلة التي تعجز عن مرأى النّور في أبهى مجاليه”. وهي قصّة يتماهى فيها الحزن والحبّ فتنسدّ الآفاق بينما الأمل يكمن غير بعيد لا يتطلّب إلى السّعي لاكتشافه والظّفر به بالسّعي إلى الفعل الذي توحي به  “أحباب الله” التي تصدّرها بقولة للمسعدي “وأنت تمشي فوق أرض الجدب والقحط، لا تخشى أن ترفع رأسك إلى  السّماء، وتحلم بالماء والنّدى” وهو تصدير يخدم بشكل مباشر مضامين النّص التي تركز على الفقراء أحباب الله وقد فقدوا كلّ كرامتهم وأنفتهم غير أنّ الأمل ينبعث رغم كلّ شيء متى كان الفعل مستمرا وذاك جوهر الفكر وفلسفة الحياة عند المسعدي وقد استعارته منه لتعالج بشكل قصصي واقعي عجائبي مثير قضايا مجتمعية راهنة تتّصل بالغلاء وبصعوبة العيش والشّعور الدّائم بالاستلاب والارتهان. غير أنّ الحياة تحمل أكثر من وجه وأكثر من معنى فإذا الفارّ من ضيق العيش بالبلاد يعود إليه قسرا ويخضع له ويركن فيكون مصيره التعرّض للتحيّل والاستلاب أيضا في نص “قطّة حبق” الذي جاء تصديره بكلام لمظفّر النّواب “أيقتلك البرد؟ أنا يقتلني نصف الدّفء، ونصف الموقف” في إشارة تامّة أنّ الحياة والاستسلام أو الفرار مهلكة للجميع في مثل هذه المجتمعات. ولذلك فقد تغيّر موقف “شكري” في النّص من اللامبالاة والهمّ الشّخصي إلى الاهتمام بكلّ شيء “تملّكه ضيق لا يحتمل، واشتعلت في رأسه ألف فكرة، وشعر لأوّل مرّة، بأنّه معنيّ بكلّ شيء، بالأرملة، وباللّصوص المحتالين، وبغلاء المعيشة الفاحش، وبالطّرقات الخربة، وبكلّ الخطر الذي يهدّد البلاد والعباد”. ثمّ عادت إلى تصدير النّص بقولتين في نصّ “النهر” حيث ورد في صدارته قول لـ”فرلين في رثاء رامبو صديقه: ‘أخيرا متّ الميتة التي تريدها، زنجيا أبيض، وحشيا رائع التمدّن” وقول لـ”جبران” جاء فيه “الشّك ألم في غاية الوحدة، لا يعرف أنّ اليقين توأمه” في نصّ يعالج بشكل عجائبي قضايا التمييز العنصري. أمّا نص “طلاقة النّساء” فتتخلّى فيه عن التّصدير وتكتفي بإهداء “إلى نساء بلادي ورجالها، وإلى كلّ النّساء” وهو نصّ ذو خصوصية يطرح قضايا نسوية حين تتأرجح المرأة بين مستواها الثقافي والاجتماعي والمديني العالي وضرورة إتقان كلّ شيء من العادات والتّقاليد لإرضاء الأهل والعشيرة. ثمّ ترد ثلاث نصوص تحت عنوان كبير “في الفنّ …” يتضمّن قولتان تردان قبل تصدير النّص الأوّل في باقة الفنون الأولى لـ “درويش” جاء فيها “هزمتك يا موت الفنون جميعا” والثّانية لـ”بيكاسو” ورد فيها “الفنّ هو الكذبة التي تجعلنا نكتشف الحقائق” وبهذا، فالفنّ لا يموت ما دام كشفا للحقائق التي حاولت الكاتبة في النّصوص الثلاثة أن تكشف منها الكثير فجاء تصديرها للنّص الأوّل في الباقة وهو نص “الحكواتي” متكوّنا من قولين وإهداء وشكر. القول الأوّل لـ “غسان كنفاني” ورد فيه “لك شيء في هذا العالم، فقم” والثاني لـ “المسعدي” جاء فيه “كالمستعد للرّحيل، لا ينقضي عنه الرّحيل” وفي كلا التصديرين دعوة إلى الفعل وإلى التّجديد وعدم الإقامة على حال واحدة أو أسلوب واحد وهذا ما سيتحقّق شكلا في نصوص الباقة. أمّا الإهداء فهو “إهداء خاصّ” جاء على النّحو التالي “إلى الصّديق صمويل ألو، رسول السّلام، المسافر في عمق الإنسانية، والمتجوّل باستمرار في أصقاع العالم والشّعوب، حقيبة من الأحلام زاده، وحكايات وخيال زوّاده، وستنور شجيّ لتحرير أنغامه”. في حين ورد الشّكر بيانا لسبب هذا الإهداء وهو أنّه كان سببا لكتابة النّص حيث ورد فيه “شكرا له ولمروره بربوع مدينتي، مرورا أزهر في ذهني فكرة هذا النّص” فقد كان مروره إذن مصدر إلهام وباعثا على المحاكاة قولا وفعلا. غير أنّها في نص “ثالثا وأخيرا” وهو الثاني في باقة “في الفنّ ..” والحادي عشر في المجموعة فقد عادت إلى رولان بارت لتصدره بنفس قوله الذي صدّرت به المجموعة كما عادت إلى سعيد الكفراوي لكن بقول جديد جاء فيه “الماضي هو أجلّ الأزمنة” كما مهّدت لهما بقول لـ”ليوبول سيدار سينغور جاء فيه “وحده الإيقاع يحدث الرجّة الشّعرية، ويحوّل الذّهب إلى نحاس، والكلمة إلى فعل” وهي أقوال تتناغم مع المنحى العامّ للمجموعة شكلا ومضمونا كما تتساوق مع ما في النّص من تيمات خطيرة تتّصل بمعاناة الكتابة و”متلازمة الورقة البيضاء” وحيرة البحث عن الأساليب الجديدة المبتكرة في ركض تجريبيّ لا يني ولا ينتهي بما يجعل الكاتب دوما غير راض على نصّه الذي يعتبره غير منتهٍ ومفتوحا على إمكانيات لا متناهية ولذلك تذيّل الكاتبة نصّها بعد أن خطّت “انتهت 08-09-2019” بالقول “ربّما كان على النّص أن يبدأ على هذه الشّاكلة: ‘تصفّحت اليوم ألبوم الصّور، ….”. أمّا النّص الأخير في الباقة وفي المجموعة التي وهبها اسمه فقد اكتفت بتصديره بقول “فرنادو بوتيرو” يقول فيه ” لا يجب أبدا أن تكون واقعيا، ذلك هو أوّل درس تعلّمته في الرّسم” في إشارة واضحة إلى تبنيّ نفس المنهج في الكتابة أيضا حين تصف عالمه، عالم الفنّ عموما، أيّ فن: “عالم واضح وغائم، ساخر وجدّي، لطيف وخشن، مبهج وحالم، شهوانيّ وبريء، جامد ومائج، عالم سوريالي أبديٌّ بلا نهاية.” ولذلك فقد تداخلت الفنون في هذا النّص، الرّسم والرّقص والكتابة فكانت الحياة وكان الانبعاث من خلال العطسة الفنيّة التي استحدثتها الكاتبة وأجرتها في سياق النّص. ذلك أنّ الرسّم قد أبدع في تصوير الرّاقصة أيّما إبداع لكنّه سجنها في حركة ومنظر ومشهد وسحر  ما، فجعلتها تثور وتحتجّ وتنبعث بحيلة العطسة. وتلك ميزة الفن واهب الحياة والخلود.

وعلى هذا فالاعتماد على هذه التّصديرات بالشّكل الذي أوردناه ليس في تقديرنا مجانيا بل مقصودا ومحدّدا لمذهب الكاتب التي نحت منحى سرياليا رغم عدم قدرتها الكاملة على مغادرة الواقعية، والواقعية السّحرية والواقعية العجائبيّة. وهي بتلك التّصديرات تحدّد مراجعها والنّهج الذي تسير فيه في دروب الكتابة التي يمكن أن نقاربها عندها في هذه المجموعة من زوايا مختلفة منها:

3- قرية بوتيرو: سحر الواقع وألق النّقل الحيّ.

لئن كانت الواقعية التي ظهرت في منتصف القرن التّاسع عشر كما يرى بعض الدّارسين تصويرا للأشياء والعلاقات واضحة كما هي عليه في العالم الحقيقي الواقعي في جوهرها مع عزوف واضح عن الفانتازيا أو الرومنسية، فإنّ الواقعية السّحرية التي ظهرت في أواسط القرن العشرين تعرّف بكونها: “نهج أدبيّ ينسج عالما يتشابك فيه الخيال والأسطورة بالحياة اليومية. وفي عالم الواقعية السّحرية، تُنزع عن العادي عاديته، ويصبح السّحري مألوفا، ولا يبقى سوى سؤالين: ما الحقيقي. وما الخيالي؟”[6] والنّاظر في نصوص “قرية بوتيرو” لا يكاد يخرج عن هذين المذهبين إذ يسافر فيها إلى عوالم واقعية حقيقية تنهل نهلا مباشرا من الواقع التونسي قرويّا كان أو مدينيّا في انحياز واضح وربّما مقصود إلى الفئات الهشّة فيه بمعاناتها وأحلامها البسيطة المنسحقة، كما يسبح من حين إلى آخر وفي نفس النّص أحيانا في عوالم خيالية ساحرة سواء من باب الخيال المجنّح غير الواقعي والفانتستيكي أو كان من باب العوالم الرومنسية الحالمة.

فمن حيث الوقائع والأحداث نحن أمام كثير ممّا هو مألوف ومعروف أو متعارف عليه في واقع التونسيين وفي الواقع العربي عموما بدءا بسلوك “العظروط” في قصّة “شركس”   ومعاناة زوجته التي تنقلها الساردة “والتفتت مرّة ثانية إلى السدّة، وأرعبتها ذكرى سنوات البرود والوحدة والحرمان، ‘العضروط’، الطّويل، الرّجل الكامل، ربّما كانت ستدركه كذلك لولا فارق السنين، فهي لم تلحق بغير أعقاب للرّجولة، قبل أن يصير ذكرا عاجزا معتلاّ، وزد على ذلك إغراقه في جحيم السّكر وإدمان التّدخين”. والعضروط وزوجته وما بينهما نموذج متكرّر حاضر بقوّة في المجتمع وصورة مستعادة في القصّ التّونسي. وكذا ما وقع في قصّة “كرمة شهلة” التي تقام على لعبة التّماهي بين الكرمة المهداة المنتظر ثمرها وزوجة الهادي المنتظرة لمولودها الرّابع بعد فقدان أجنّتها الثلاثة السّابقين، فنحن أمام أجواء من واقع الأرياف التونسية مع الهادي الذي يبيع زرابي من منسوجات زوجته “شهلة” وبعض نساء القرية والخالة “حدّي” والسيّدة سميرة التي تستخدمه أحيانا وتطمع أن يمنحها المولود الجديد. بينما تطرح قصّة “جسد” قضيّة من أعقد القضايا في الأرياف التونسية وفي بعض مدنها وهي قضيّة الزّواج القسري حين ترغم الفتاة على الزّواج من شخص يكبرها لا لشيء إلاّ لأنّه ثريّ، غير أنّ الكاتبة تحرّر الفتاة بالهروب ليلة زفافها. وفي ردهات هذه القصّة لا تفوّت الفرصة لتشير إلى بعض المعتقدات الشّعبية ذات الصّلة بالواقع التونسي مثل الاعتقاد بسكنى الجنّ لبعض الأماكن: “قطع قول للّة خديجة، جارة السّاس الصّمت: الله يهديها أختي صالحة، قلتلها راهي حمّام لعميمي، مسكون من قديم الزّمان، والجنّ اللّي فيه إذا عشق صبيّة ي خرّجها حتّى من كرش الحوت” فنحن أمام واقع تونسي بشخصياته وأحداثه وأسمائه ولهجته التونسية المميّزة ومعتقداته. بل إنّنا قد نجد أنفسنا أمام إحدى العادات التونسية الأصيلة والمتميّزة متمثّلة في عصيدة “حبّ الصّنوبر” التي يحتفي أهل حاضرة تونس أو ما يُسمّى اصطلاحا عند التونسيين “البَلْدِية” بإعدادها ولهم طقوسهم في ذلك. غير أنّها تقدّم هذه العادة وهذا الاحتفاء السّعيد في سياق تقابلي مع واقع ريفي بسيط يقبع هناك في منابت حبّ الصّنوبر حيث تجمعه عائلات عديدة بمعاناة لتبيعه بثمن بخس لتجار المدينة وللوسطاء الذين يغالون في بيعه للناس فيغنمون بينما يشقى أهل الرّيف الفقراء كما تشقى “بختة” ابنتهم التي ما إن رأت حبّ الصّنوبر حتى تشنّجت وانصرعت. لكنّ النّص من جهة أخرى يكاد يقدّم وصفة متكاملة لكيفية إعداد هذه “عصيدة زقوقو” ومقاديرها، وهذا ما يجعله ألصق بالواقع التونسي. وهكذا ففي كلّ النّصوص تقريبا نجد هذا البعد الواقعي، وهذا النّهل من الواقع من حيث الأمكنة والأسماء والشّخصيات والأحداث والملامح العامّة والأوصاف والتّعابير. وهذا ما يجعلنا نعتقد في أحايين كثيرة أنّ الكاتبة تكلّف سرّادها بنقل حيّ لما يجري في الواقع بكاميرات تترصّد المشهد من زوايا مختلفة لتنقله بتفاصيله الصّغيرة والدّقيقة. وهذه حسنة تُحسب لصاحبة النّص التي يبدو أنّها تتقن فنّ التبئير المموّه إذ تطرح قضايا ومشاهد بتركيز شديد لكنّها تعرضه في لبوس حكائي وقصصي بديع يشدّك فتظنّ أنّه الغاية والمقصد، لكنّك سرعان ما تدرك أنّها تركّز على أشياء واقعية وتنقل واقعا حيّا من خلال علامات في النّص ومؤشّرات عديدة لا تغيب عن القارئ.

بيد أنّ هذا المنحى الواقعي في هذه القرية الملآى بحكاياتها المضمّخة بالواقع والنّزوع إلى المرجع، تنزع إلى القصّ بما هو فنّ يعتمد التّنويع والتّجريب والمداورة والمناورة السّردية فتخرج الحكاية الواقعية أو الحكاية التي تحاكي الواقع وتعيده من قالب النّقل الحيّ إلى النّقل التّسجيلي المُسَنْيَرْ الذي تختار فيه الكاتبة سيناريوهات مختلفة وأطرٍ متنوعة وأبنية فنيّة متعدّدة وألوان مبهجة من القول تجعل القرية ساحرة، باهرة تغري بالتجوّل فيها واكتشاف مجاهلها، والتمتّع بروعة مشاهدها وعمارتها الفنّية الرائعة. فكيف ذلك؟

4- قرية بوتيرو: بوارق السّحر وخوارق الفنّ.

يبحث عادة المسحورون أو من يظنّون بأنفسهم ذلك عن العمل المعمول لهم وطبيعته ومن وضعه وأين دُفن ليُزالَ فيتخلّصون منه ومن عواقبه ويستعيدون حياتهم العاديّة بعيدا عن تأثير السّحر. غير أنّ قارئ “قرية بوتيرو” على عكسهم، كلّما توغّل، واكتشف السّحر، وانشدّ إليه، استزاد منه، وطلب الإمعان في الانغماس فيه، وفهم مكوّناته، ومواطنه لا ليزيله بل ليُشبع نهمه منه، ويتلمّظ حلاوته التي تمسّ مدارج الفكر، وشغاف النّفس، ونياط القلب، لتحدث في النّفس جوقة من المتعة يصير بها القارئ مختلفا عن حاله قبل القراءة. ذلك أنّ الكاتبة بالإضافة إلى نهلها الواضح من الواقع واعتمادها الكبير على المرجعي في أغلب قصص المجموعة كما أسلفنا، فقد وشّحت نصوصها بمياسم سحرية تجعلها تعانق مدارات الإبداع بما توفّر فيها من عناصر وأساليب ومراوغات سرديّة وانزياحات غير متوقّعة تجعل نصّها يمزج مزجا عجيبا ممتعا بين الواقعي والسّحري كما يعانق في أحيان كثيرة العجائبي. ويبرز هذا من خلال جملة من العناصر لعلّ أبرزها:

ـ البنية:

اعتمدت الكاتبة في نصوصها على بنى متنوّعة، إذ لم تكن البنية عندها متكرّرة بل كانت متغيّرة من نصّ إلى آخر. فلئن كان نصّها الأوّل نصّا ذا بنية عادية وبسيطة تتبّع الخط الزمن العادي يبدأ من لحظة انطلاق الشّماريخ احتفالا برأس السّنة الميلادية وينتهي إلى لحظة موت الزّوج وابنته نائمة عند سريره، فإنّ بنية النّص الثاني يمكن أن أسمّيها تجوزّا ببنية “انبجاسية” انطلقت من تماه مقصود بين كرمة وشهلة من خلال الأرق الذي يصيب شهلة الحبلى الخائفة على حملها والقلقة على “عنبتها” من الرّيح لتنبجس بقية الأحداث والشخصيات وكأنّ مسارات القصّة نافورة تنبجس من المنبع “كرمة + شهلة” وترتفع وتتّسع لتشمل بقيّة الشّخصيات ومختلف الأحداث والقضايا التي عالجتها القصّة. غير أنّ البنية في “حب الصّنوبر” تبدو دائرية إذ تنغلق القصّة بما بدأت به تقريبا وهو مشهد “مينا” وهي مبتسمة فرحة وهي تعدّ “عصيدة الزقوقو” كما انفتحت قصّة “جسد” بأذان الفجر وانغلقت به وبينهما تصطرع العتمة والنّور والبياض والنّقاء مقابل الظّلام والوحشة والحزن الذي يقود إلى تقابل أكبر بين الجسد والرّوح والانعتاق والحرّية. غير أنّ البنية تشهد تحوّلا كبيرا فيما أسميناه بباقة “في الفنّ” ففي نص الحكواتي تتناسل الأحداث والقصص من رحم الحكاية الأصل التي يرويها الحكواتي الذي زار القرية ورحل لكنه ترك حكواتيا آخر يقوم بدوره الفنّي البديع بشكل يعتمد التّضمين واللّصق كما كان الحكواتي الأصلي ملهما للكاتبة ومحفّزا لها لكتابة هذا النّص. لكنّ نصّ “ثالثا وأخيرا” تفاجئنا الكاتبة في آخره باحتمال “ربّما كان على النّص أن يبدأ …” أمّا نصّها الأخير “قرية بوتيرو” فقد قام على لعبة فنّية بديعة تظافرت عناصرها لتقدّم بينية “عنقودية” تتناسل فيها الأحداث متّصلة منفصلة من خلال الحوارات التي أقامتها السّاردة ببراعة بين “بوتيرو” وراقصة اللوحة من ناحية وبينه وبين زوجته من ناحية أخرى وبينه وبين نفسه كما في الحوار الباطني لراقصة اللوحة من ناحية ثالثة. وهذا التنوّع في البنى هو الذي يعطي للنّص أبعادا زاخرة وتطوّرا في تجربة الكتابة لدى الكاتبة وهي تتحدّث عن متلازمة الورقة البيضاء.

ـ الشخصيات ورمزية الأسطرة:

يلاحظ القارئ وهو يتسكّع في شوارع “قرية بوتيرو” احتفاء بشخصيّات تونسية واقعية أصيلة. لكنّ هذه الشّخصيّات ثريّة جدّا من حيث الملامح والرّموز والتصرّفات بما يجعلها قريبة جدّا من القارئ وساحرة بما تنطوي عليه من أسرار وبما تعيشه من أحداث، وبما تعايشه من وقائع، وبما تُقدم عليه من أفعال. غير أنّ هذا السّحر وهذه الفتون لا تتأتّى من هذه الشّخصيّات فحسب، بل تندلق من خلال ما اتسمّت به بعض القصص من غرابة وعجائبية وتناصٍ على مذهب كافكا في قصّة “أحباب الله” حين نكتشف أنّ ما وضع من طيور في الأقفاص ليست سوى كائنات ممسوخة لأدميين من الفقراء وقد صار البطل مثلهم في قفص بعد أن قُطّعت أوصاله وأعضاؤه بشكل غريب عجيب شيّق، وعلى مذهب بديع الزّمان الهمذاني في “المقامة البغدادية” التي تقفز إلى ذاكرتنا بمجرّد مناداة الرّجل لـ”بوراوي”: “- .. جبلاوي؟ يا راجل، تي وينك، هالغيبة؟” وردّ “بوراوي”: ” – .. لست المدعو جبلاوي، راك غالط يا حاج”. وهذا الحوار يعيد إلى ذاكرتنا قول السّوادي في المقامة البغداديّة “كم قلت لذلك القُريد: أنا أبو عبيد، وهو يقول: أنت أبو زيد”. وبهذا فقد جمعت القصّة فأوعت بين عجائبية كافكا وسحر القصّ وطرافته في مقامات الهمذاني. بالإضافة إلى ما نجده في شخصيات أخرى كما في قصّة “النّهر” التي يتحوّل فيها البطل بعد “لطخة” إلى أسمر البشرة أو في قصّة “الحكواتي” التي تتداخل فيها القصص ويحضر طائر “الكوليبري” العجيب وحيوانات الغابة أو قصّة “ثالثا وأخيرا” التي تتعامد فيها الشّخصيات ويأخذنا الحوار بينها إلى عوالم باهرة وساحرة ومحيّرة في عمق العملية الإبداعية، أو قصّة “قرية بوتيرو” التي تُنتدب فيها راقصة اللّوحة لتكون شخصية محورية مشاكسة ومحتجّة على الرسّام الذي قدّر لها ذلك المصير. والكاتبة إذ تفعل ذلك تبني عالما تخييليا يشدّ القارئ ويمتعه دون شكّ، لكنّها مع ذلك ترمي بسهام من الرّمز تصيب مكمن التّفكير والحيرة في الإنسان فتشجّه فتفور منه الأسئلة سخيّة حارّة فورانَ دمِ جرحِ سهمٍ أصاب مقتلا. فكلّ شيء على ما يبدو عند بوكيل في هذه المجموعة بقدر وقصد وغاية، ولا شيء عن دها متروك للصّدفة أو لجريان القلم بما يشاء من عفويّة وإن ادّعت لنفسها ذلك كما يدّعيه كثير من الكتّاب.

ـ في المضمون سحر الهواجس ووساوس الفكر:

بقدر كبير من التّقدير في السّرد وقصد ظاهر لا يخفى على القارئ من خلال مؤشّرات  عديدة يلوح البعد الفلسفي وتطلّ القضايا سافرة في أغلب القصص وإن تقنّعت بلبوس قصصي حكائيّ جذّاب. فقد طرحت المجموعة قضايا مجتمعية عديدة تتّصل بالفقر والمعاناة والعنف الأسري وتشغيل الأطفال لكنّ كلّ ذلك كان في كسوة فنيّة قصصية ساحرة من خلال قصص “شركس” و “كرمة شهلة” و”حبّ الصّنور” . كما عالجت قضايا النّسوية من خلال قصّة “طلاقة النساء” وقضايا العنصرية من خلال قصّة “النّهر”. غير أنّ عمق التّناول وتكثيفه دون الوقوع في المباشرتية أو المساس بالإتقان الفنّي العالي قد تمّ فيما أسمينا بباقة “في الفن” حيث طرحت مجموعة من القضايا التي تتّصل بالفن بفروعه الكثيرة فعرّجت على إشكاليات الكتابة ومعاناتها في “ثالثا وأخيرا” وفتحت نافذة على فكرة تداخل الفنون ودور الفن في الإحياء وتجميل الحياة في “الحكواتي” في حين ركّزت على قضايا جدلية في الفنّ من خلال الحوارات بين “راقصة اللّوحة ” والرسّام الذي رسمها وسجنها على شاكلة سرمدية حسب زعمها. ورغم زخم هذه القضايا وجدّيتها غالبا، فإنّنا لا نشعر بالملل وهي تعترضنا بين الأسطر وتثير في أذهاننا أسئلة ربّما لم نفكّر فيها سابقا لأنّها ترد إلينا وتقفز أمام أعيننا كحيوانات برّية أليفة ترتع في مروج خضراء باهرة السّحر. وهذا ما يُحسب لصاحبة هذه النّصوص.

ـ هل إلى خروج من سبيل:

ليس أيسر من دخول عوالم نصّ من النّصوص، غير أنّه ليس من المضمون الإقامة فيها لوقت طويل إلاّ إذا توفّرت عناصر الإثارة والتّشويق وما يشدّ الانتباه إليه من القضايا والأفكار دون تسطيح ولا استعجال أو سفور كالح دون مساحيق فنية ساحرة. و”قرية بوتيرو” قرية محصّنة من هذه الجوانب متى دخلها القارئ لا يضمن لنفسه خروجا آمنا دون أن يتأثّر أو يتغيّر فيه شيء من خلال ما تتركه المتعة في نفسه من جنس ما تتركه القراءة من متع. بيد أنّ المتعة في “قرية بوتيرو” أرفع وأكثر عمقا بما تعجّ به القرية من عوالم ساحرة فنّا وموضوعا، وبما تطرحه على القارئ من أسئلة وقضايا تجعله يقيم بين جدرانها العالية وأبوابها النصيّة الاثنيْ عشر لأنّ الأسئلة ستساوره دوما لأنّها أسئلة جوهرية تتّصل بالفنّ والكتابة والحياة ودور الفنّ في الوجود وأثره في الإنسان ثمّ تتّسع لتشمل قضايا وجودية رغم أّنّها تطرح من زاويا مجتمعية. ولأنّ هذه الأسئلة ستتلبّس به سيسأل نفسه دوما كلّما ساورته “هل إلى خروج من سبيل؟”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]  كونستانتين برانكوشي (بالفرنسية: Constantin Brâncuși)‏ 19( فبراير, 1876 – 16 مارس, 1957) هو فنان ونحات روماني توفي في باريس.
[2]  ميشيل دي مونتين (بالفرنسية: Michel de Montaigne)‏ (28 فبراير 1533-13 سبتمبر 1592) أحد أكثر الكتاب الفرنسيين تأثيرًا في عصر النهضة الفرنسي.
[3]  فرانس كافكا (3 يوليو 1883 – 3 يونيو 1924) (بالألمانية: Franz Kafka) كاتب تشيكي يهودي كتب بالألمانية، رائد الكتابة الكابوسية. يُعدّ أحد أفضل أدباء الألمان في فن الرّواية والقصّة القصّة القصيرة تُصنّف أعماله بكونها واقعية عجائبية.
[4]  رولان بارت (بالفرنسية: Roland Barthes) فيلسوف فرنسي، ناقد أدبي، دلالي، ومنظر اجتماعي. وُلد في 12 نوفمبر 1915، في شربور، وأصيب بالسل في مطلع حياته، ونال شهادة في الدراسات الكلاسيكية من جامعة السوريون عام 1939، ودرس في بوخارست، ومصر، وأصبح أستاذا للسميولوجيا عام 1976 في الكولج دي فرانس، وتعرض لحادث تُوفي على أثره في 25 مارس 1980
[5]   سعيد الكفراوي (ولد سنة 1939 – 14 نوفمبر 2020) كاتب قصة قصيرة مصري، ينتمي إلى جيل الستينيات. تقتصر أعماله الأدبية على القصة القصيرة دون غيرها.
[6]  https://www.sasapost.com/translation/magical-realism-definition-and-examples/ مقال بعنوان “ماذا تعني الواقعية السّحرية ؟ وكيف نفهمها؟

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

النسّاجة

عندما زارنا أول مرة كنت قد كبرت شبراً إضافياً، مسّد على شعري، داعب أرنبة أنفي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *