الرئيسية » حوارات » عيسى الشيخ حسن.. الشاعر الذي وضع ذاكرته بين قوسي الرواية

عيسى الشيخ حسن.. الشاعر الذي وضع ذاكرته بين قوسي الرواية

كثيرة هي التحولات، والتبدلات، والتغيرات التي طرأت على سورية، وأهلها. فسورية ما زالت خارطتها تتراقص، والحديث عن مستقبلها سابق لأوانه. أمّا أهلها فقد أعيد انتشارهم، وتوزيع أدوارهم!! منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وقد تبدلوا، وتغيروا، ولحقت بأسمائهم الألقاب الجديدة. “موال”، “معارض”، “لاجئ”، “نازح”، “شبيح”، وكثير من البلهاء امتهنوا التنظير السياسي، دون رصيد معرفي!!

قلة قليلة من الكتّاب السوريين أدركوا أن سؤال الأحلام لا يجيب عليه التاريخ بسرعة. من أولئك الكتّاب الشاعر والروائي عيسى الشيخ حسن. الذي بدأ شاعرا مجدّا ومجتهدا، وأخذ مكانه اللائق بين الشعراء. وحين لم يعد يرى في وجه البلاد بهجة القصيدة، تحول إلى كتابة الرواية، فكانت روايته الأولى (خربة الشيخ أحمد)، ملحمة نزوح سابق على نزوحنا الحالي، رصد خلالها مصائر جماعات وأفراد غاب تاريخهم عن كتّاب الرواية!!

إن مساءلة النص الأدبي هي إحدى مهام النقد، أما حوار الكاتب، فهو حوار الكاتب بصفته كاتب. أي تجاوز الكتاب إلى الكاتب دون مسطرة مسبقة المقاسات. وخاصة أن الكاتب قد تململ من شرطه اللغوي والتعبيري كشاعر.

ـ عيسى الشيخ حسن.. من أنت؟

أعوذ بالله من “قولة أنا” سؤال يحير إلى المرايا التي كانت تجيب على سؤالي “من أنا”؟ كانت مراياي أيضًا عيون أطفالي وطلابي كلّما أنجزت شيئًا حسبته يعني لهم شيئًا، الأصدقاء الوحيدون الذين لا “أتمرّى” بعيونهم. عندما يبتلى الإنسان بالشعر يبحث عن مرآة، في تلك المرآة مرآة الشاعر بقيت طفلًا وقتًا طويلًا، ولكن إصابتي الجديدة بلوثة السرد أحالني إلى عجوز يتوكّأ على ماضٍ بعيد، عجوز خائف من كلّ شيء، وعلى كلّ شيء، خبّأ الطفل في مرآة عتيقة صغيرة مؤطّرة بالـ “غريان”، ولم تغادر معه إلى المنفى. وبين هذا وذاك، ففي المرايا جميعها، ظلّ “عيسى” ابن قرى بعيدة شاركت في إطعامه الخاثر والدبس والكعّوب، قرى الحرملة، وبصلجة، وأبو الكالات وأمّ الفرسان، حملها معه إلى مدينة كبيرة، لم تفلح في غوايته، فيعود إنكيدو الغرّ كلّ مساء إلى غابته الصغيرة كائنًا أليفًا لا تنفر منه الوحش والغزلان والطيور.

ـ هل تعتبر نفسك مسكونا بهاجس خلق فرق أو تمايز، أو التباس في المشهد الأدبي؟

كلّ مهتمّ بالإبداع يتصوّر أنّ في لحظة الإنجاز أنّه حقّق عملًا “كسّر الدنيا” وهذا شرط الإبداع في رأيي، المسكون في اللغة المجنون أساسًا، وهذا تعبير يؤثث “تعريف الشاعر” في بعض مفاصل ما أنجزته، ربّما خدعني المحبون بقولهم “جديد- مختلف- متفوق” كان هذا في أحيان قليلة. في الآونة الأخيرة صرت أكثر قناعة، بأن للكتابة وظائف ليست بالضرورة مشاغبات أسلوبية.

ـ ما الكتاب الذي تطمح أن تكتبه؟ وهل لديك تصور لهذا الكتاب؟

أنجزت في الفترة الأخيرة، مجموعة نصوص في الشعر والسرد والبحث، لكنّ الكتاب الذي يهمّني إنتاجه هو مجموعة اجتهادات لي في الثقافة الفراتية أو “الشاوية” اللهجة والطعام والعادات، جهد نحو خمس سنوات، ولكنّ مشكلتي أنّني أحصد ولا “أغمّر” والعمل يحتاج إلى “قعدة” وتشجيع. أكثر من ناشر رحّب بطبع العمل، ولكنّي أحتاج وحسب إلى المبادرة الأولى. نعم تصوّرت الكتاب تمامًا، وربّما بحثت أكثر من مرّة عن صورة للغلاف، بل ووجدت اسمًا له “خُرج الرّاعي” رغبة في استعادة صورة زاهية للشخصية الفراتية.

ـ متى تضع عنوان الكتاب، وكيف تختاره؟

لا أدري إن كنت موفّقًا في تسمية الكتب التي أنجزتها، في الماضي، كان الأمر سهلًا، يولد الطفل، فيوكل أمر التسمية إلى الجدّ، عندما “هلّت” الحداثة، تحمّس الآباء للنهوض بهذا العبء. ولا أظنّ شيوخ النقد والأدب في نجاة من تسمية كتب كثيرة. في تجربتي: الديوان الأوّل والثاني سمّيتهما بعد إنجاز العمل، بمسمّى من خارج عائلة الديوان، رغبة منّي في مدّ عتبة إضافية خارج الباب، تتيح للضيف المقبل أن يتعرّف البيت وأهله. في الأعمال التالية صرت أختار العنوان من عنوان نصّ في الداخل، أو من عبارة تبدو كالوسم “حمام كثيف” مثلًا. أمّا في الخربة فقد كان الأمر مختلفًا، فقد كان لا بدّ من الإشارة إلى المكان، مرفقًا بعبارة شارحة “لمّا كان ظرفنا مليان” فاشتركا معًا في حواريّة موحية.

ـ تبدو شخصا لطيفا، مجاملا، هل تجامل نفسك حين تحاكم كتابك، قبل أن يذهب إلى المطبعة؟

ربّما تشي عبارة “المجامل” إلى وسم اجتماعي سيّئ، ولا أظنّ في مقابل هذا أن يذهب الكاتب إلى النقيض. تأثرت بمقولة الشافعي “اكسُ ألفاظك أحسنها”. في الحياة عندي إيمان بأنّ كلّ منّا يمتلك الحقيقة، ولكنّه حكًما لا يمتلك كلّ الحقيقة، وهذا ما يجعلني أتمثّل الآخر والـ”أنا”. أزعم أنّي أملك عين ثالثة ترى الزؤان في الحنطة، في أوّل الأمر كانت درجة إبصار العين الثالثة 6/6، ولكنّها أيضًا صارت في حاجة إلى نظّارة. أقلّب الخربة أحيانًا وأقراؤها بعين خالي أو عمّتي فأرى فيها ما ترى الأمّ في ابنها. وأقراؤها بعين ناقد أكاديمي فأشفق عليها من معايير لم تحقّقها. كانت أمّي قد غرست في “الحوش” شجرًا، وعندما جاء موعد تقليمه جاء ابن أختٍ لي ليقلّمه، ورأت من قسوته على الأغصان، واعترضت، ولكنّها في الأخير تركت الحوش إلى أن ينجز ابن أختي العمل. قديمًا كان مقصّ المقلّم في يدي حادًّا، ولكنّني الآن أترك “الحوش”.

ـ حدثني عن قلق الجملة الأولى، الجملة المؤسسة؟

شتاء 1985 (على ما أظنّ) ظلّت عبارة “يلد الخريفُ عباءةً والليل مفتاح النهار” ليالي طوالًا، كلّما أويت إلى فراشي، هجّأتها، ثمّ بدأت أزيد عليها. الجملة الأولى، البيت الأوّل، مرّ بي كثيرًا، الجملة التي تدقّ الباب بإلحاح. ثمّ تدخل ومعها أخواتها وعائلتها. أتذكّر الآن جملة من النصوص: “أمويون في حلم عباسي- مرّوا عليّ- المريد- بيان- في انتظار صديقي” بدأ كلّ منها بجملة. الجملة الأولى جواب قلق، هبّة الهواء الأولى بعد “صنّة الحرّ”، ووعد الشاعر أنّ القصيدة ستأتي.

ـ وأنت تشاهد انتشار روايتك بين القرّاء، ما المشاعر التي تنتابك؟

للكلام شجون؛ شجون تتعلّق بأشكال الكتابة، وأخرى تتعلّق بالظرف الذي أوصل السوريين إلى “السرد”، وما منّا إلّا في حصّالة ذكرياته أكثر من سردية، بداية الحدث السوري صرت ألاحق اليومي بقصاصات يمكن تسميتها “قصائد نثر” مهتمّة باللقطة اليوميّة، ومع الحدث المستديم المتطامن ركنت إلى تأصيل الشفاهي الفراتي استجابة لقلقي وقلق الجماعة من ضياعٍ متعدّد الوجوه، فأردت بناء بوصلة، انتهت بي إلى حكّاء، كانت “خربة الشيخ أحمد” الشكل الأخير لتلك البوصلة. كانت الخربة رواية تفاعلية، تسعة وأربعون فصلًا، بيّتناها حجرًا حجرًا في منقلة السرد. لكنّ ما حدث بعد ذلك شيء غير عاديّ، شعور عدّاء أولمبي وصل خطّ النهاية ووجد من ينتظره، جمهوره المحلّي الذي وجد عملًا يعبّر عنه. سعادتي لا توصف والخربة ضيفة أهلي في أورفة وعينتاب وألمانيا والسويد والأردن ومصر والعراق والخليج، ولكنّ ذلك يضعني في ورطة حقيقية، أن أعود إليهم مرة أخرى بعمل يتجاوز الخربة.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن إبراهيم الزيدي

إبراهيم الزيدي
شاعر وكاتب سوري، عضو اتحاد الكتاب العرب، كتب ونشر في العديد من الصحف والمواقع والمجلات السورية والعربية، صدر له في الشعر: كلمات بلون الحب ـ ثم ليلى، ورواية «حب تحت الأنقاض».

شاهد أيضاً

الكاتب السوري عمر الحمود:  المجاملات في الثقافة قاتلٌ صامت

حوار: عبد الرزاق العبيو  | عمر الحمود، أديب من مدينة الرقة السورية، عضو اتحاد الكتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *