في ظهيرة يوم تموزي، كانت صفحتي السماء والأرض على وجهي نقيض، ففي حين كانت السماء صافية تعبرها بخفة سحب صيفية هائمة، كان على المقلب الآخر نار ودخان وموت يعمّ وجه رقعة من البسيطة إثر صراع عنيف اشتعل بين بعض من ساكنيها.
في ذاك اليوم، جلس الجندي “باسم” على الأرض المكسوة بالعشب الندي في أحد بساتين جبال كسب المطلة على زرقة البحر الأبيض المتوسط الجميلة. أسند ظهره إلى جذع شجرة كرز عتيقة تكبره بعشرات السنين، وأغمض عينيه من غير أن يكون آبهاً بجمال عناقيد ثمارها القرمزية المتلألئة على غصونها، أو مبالياً بذاك العصفور الصغير الخائف الذي لطى بين أوراق الشجرة الخضراء اليانعة..
كان جريحاً، ومتألماً، ووحيداً بعد أن أضحى متخلفاً بمسافة بعيدة عن رفاق السلاح الذين استمروا بتقدمهم أمام تقهقر الأخوة الأعداء في الوطن. فيما ظلّ صدى ذات الصيحة النارية المتنازع عليها بين الطرفين المتقاتلين “الله أكبر” يتمازج مع ضجيج المعركة المتقطع، ويصمّ أذنيه اللتين تلطختا ووجهه بدمائه النازفة من جرح غائر في خاصرته.. حدّث نفسه:
– “يا لهذا القتال المضني الذي طال أمده لسنين طوال !!..أما آن له أن ينتهي؟!”.
ضغط بإحدى يديه على الجرح علّ ذلك يمهله بعض الوقت، بينما تلمس بيده الأخرى دفتر مذكراته الذي واراه في أحد جيوب بدلته العسكرية الداخلية.. أخرجه بيده المرتعشة التي تقطر دماً، وركنه على التراب بجانبه ريثما يبحث عن كلمات تناسب وداع خطيبته المنتظرة زفافهما المؤجل، فيما استمر جرحه بالنزف البطيء من دون رأفة…
كان الهواء يداعب الصفحات القليلة المؤرخة، ويقلبها لتلوح كلمات مضيئة كنجوم في ليل عاتم..
كان قد كتب، إلى حبيبتي الغالية..
إنه اليوم 1/ تموز : “لطالما كرهت الحروب. مذ كنت طفلاً لم ألعب يوماً ببندقية بلاستيكية…
في هذا اليوم قالوا مرة أخرى: عليك الالتحاق بقطعتك العسكرية. وإن لم تقاتل حتى الموت، فهذا يعني أنك كاره وخائن لبلدك.. أعترف لك وأصدقك القول.. أحب بلدي كثيراً وأفضل الموت على خيانته، ولكن لو سألوني لقلت أنني أحبك وأحب عملي الهندسي في تصميم العمارات والطرق أكثر..لذلك سأتجاهل الطلب مجدداً”..
اليوم 4/ تموز : “في هذا اليوم جاؤوا لأخذي معهم. لقد مزقوا قلب أمّي الحنونة إلى آلاف النُتف. حدث هذا لحظة أبلغوها أنّ إنجابها لولدين ذكرين يحتم عليها التضحية بأحدهما ليكون قرباناً في أتون حرب لا تفقه عنها شيئاً. يومها دقت بقبضتها على صدرها، وصاحت بهم:
– يا ويلااااه. أيها القساة الظالمون!! كلاهما فلذة من كبدي..كيف لي أن أحيا بنصف قلب ؟!!..
آه… كم تؤلمني وتعذبني ذكراها. كيف لي أن أنسى؟! يوم تشبثت بي على باب البيت، وغرزت في جسدي أظافرها؟!!. أرادت أن تخبئني لأبقى يقينها الحاضر بأمومة لا تغيب… لكن حكم القوي كان الغالب.
انتشلوني من بين أضلعها وساقوني معهم بعيداً.. غير عابئين برجاء نظراتها المرتعبة من فرط الحب، تلك النظرات التي جعلت حزنها ليس وليد اللحظة قطّ، بل أصبح حاضراً أبدياً في ذاكرتي المتعبة. لقد علقت بناظري ووسمت قلبي، وأبت إلا أن أحملها معي أينما حللت ورحلت. وها هي تتراءى لي في ميادين القتال، وتطلّ عليّ من بين كل تلك الوجوه الغريبة لدرجة أنني أكاد أشمّ رائحتها وهي تحضن رأسي المتعب وتسنده على صدرها الحنون”..
اليوم 12/ تموز: “آه يا حبيبتي… مرّ أسبوع أشبه بعام على فراقنا.. أفتقدكم كثيراً.. وأفتقد قلمي الرصاص وآلتي الحاسبة !. يا للهول !!. حتى أنا لا أصدق ما أفعله.. ها أنا أمسك ببندقية وأطلق الرصاص. فالمعادلة هنا إمّا قاتل أو مقتول..لا يوجد حلول وسطى… وعلى الرغم من أنني سأظل أساند رفاق السلاح حتى رمقي الأخير، لكن لو خيّرت لفضلت أن أبقى سندك أنت يا حبّي في هذا العمر”…
اليوم 18 / تموز:”إنها ليلة هادئة.. لقد تغلبت على الأرق وغفوت بعمق، حتى أنني حلمت بعرسنا ..كنتِ متألقة في فستانك الأبيض البهي… انتظريني ..يا حلوتي”
اليوم 21/ تموز : “في هذا اليوم الغريب ثمة شعور مبهم يثقل صدري..الجبهة هادئة ..والسكون يعمّ المكان. ولكن هذا لا يدعو إلى الارتياح”.
اليوم 23 / تموز:” إنه يوم عصيب…القتال لا يكاد يهدأ حتى يعود إلى الاشتعال مجدداً. الموت الغاشم ينتشر في كل مكان…
قد أنال رقماً في تعداد (..) …في هذه الحال أوصيك يا غاليتي أن لا تخدعنك أية ترهات ستسمعينها يوماً. فهذا ما يحدث في الحروب الأهلية: سيختلف الطرفان المتقاتلان على تسميتي.. سأكون شهيداً عند أحدهم وقتيلاً عند الآخر ..سيمجدني بعضهم، ويرفعون صلواتهم لتقبلني السماء، وأدخل جنان الفردوس. بينما سيخونني آخرون، وينزلونني بلعناتهم إلى درك جهنم لأكون في أسفل سافلين..فهذا ما يحدث عندما يتقاتل الأخوة في الوطن…
دعيني أبقى في عينيك ذاك الرجل المسالم العاشق، الهائم في حّبك الذي عرفته وحدك بحقّ.
أخيراً …أتوسل إليك أن تكافحي لتعيشي الحياة التي بها حقاً تؤمنين.. لا تكترثي مطلقاً لما يعتقده الآخرون وسأسعد حقاً إن علمت أنك اقتنصت فرحك من صدور كل أولئك البغيضين والكارهين …وأبقي يا حبيبتي دوماً بخير”……
كان الهواء لا يزال يقلب الصفحات المضرجة بالدماء عندما تمالك الجندي نفسه أخيراً وفتح الصفحة الأخيرة ليكتب:
“حبيبتي…سامحيني ..لقد خنت عهدنا..لم يكن خياري أبداً أن لا أعود “..
بشقّ النفس أنهى الشاب كتابة كلماته ثم ذيّلها بتاريخ موته : 29 تموز/ 2014 م…
الآن لم يعد هناك ما يسعه عمله سوى أن يريح جسده المنهك وروحه الممزقة. احتضن دفتر آلامه وأحلامه، وتمدد على العشب الندي الذي كان مخضراً قبل أن يتخضب بدمائه البريئة… تناهى إلى سمعه أصوات ودعسات خطى، فيما تسللت إلى أنفه رائحة ذكية دافئة لتراب الوطن الذي لن يشهد شيخوخة الكثير من أبنائه… هبّ على وجهه الشاحب نسيم كريه برائحة بارود ونار، ومن بين أوراق شجرة الكرز المعمرة زقزق العصفور الخائف حداداً على الرجل البائس…وفرد جناحيه وطار.