نهضت من فراشي فرحاً مسروراً كما لم أفعل من قبل، فقد رأيت حلماً مُبهجاً نادراً ما يراه النائم في سنوات عمره. صارت الأفكار تتقافز في رأسي متلاعبة فرحة، والكلمات تداعب شفتي منزلقة عن لساني، لكنني بمهارتي أوقفتها عند حدود الشفتين، ثم أرجعتها للخلف لأعض عليها بأسناني موقفاً تدحرجها اللافت، الذي ربما يسبب لي مشاكلَ لست قادراً على ضبطها. وجدتني، مع ضغط الحلم على رأسي ولساني، أود التوجه الى شيخ جليل يَؤم الناس في أحد مساجد مدينتنا. قبل صلاة الظهر اغتسلت وتوضأت وقصدت المسجد، ووقفت تماماً خلف فضيلته. صليت ركعات الجماعة خلفه، ثم أكملت بقية الركعات وحدي مسرعاً، وبعد أن أكمل صلاته توجهت لفضيلته ورجوته أن يظل في المسجد لأنني بحاجة إليه. أمسكني من يدي، وسحبني الى إحدى زوايا المسجد باسماً قائلاً بلغته العربية الفصحى:
ـ لديّ ما يكفي من الوقت يا بني، هيا بنا “لنتمجلس” ونتحدث بما يؤلمك، لعل الله يجعل في أقوالي الشفاء.
ـ إن شاء الله يا شيخنا الفاضل، إن شاء الله. قلت، ومشيت حتى وصلنا تلك الزاوية، جلسنا وقلت بكلمات كانت واقفة على أبواب فمي، تتربص ان أفتحه لتندلق في وجه الشيخ:
ـ رأيت يا سيدي الشيخ فيما يرى النائم حلماً…
قاطعني الشيخ قائلاَ:
ـ خير، اللهم اجعله خيراً.
بدأت أقص عليه حلمي، وأول ما رأيت في وجه سماحته، أن وجهه لم يعد سمحاً، وأنّ قسمات وجهه قد ابتدأت بالتغير، ثم لم يطق أقوالي كثيراً ويتحملها، فأخذ يقول من بين كلماتي:
ـ الله اكبر… الله أكبر…
وكلما تعمقت بالحديث أكثر قال:
ـ لا حول ولا قوة إلّا بالله…
وقبل أن أكمل حلمي ليفسره، قام واقفاً غاضباً وقال:
ـ هذا ليس حلماً يا بني، ما هذا ورب العزة إلا دليل اتهام.
سار بخطى واسعة نحو باب المسجد، وأنا أركض خلفه لا أعرف لماذا يهرب الشيخ من كلماتي، حتى إذا وقف لينتعل حذاءه قال:
ـ ألم تجد حلماً آخراً لتحلمه إلّا هذا؟! إنني كما ترى رجل مسن لا تتحمل عظامي نتاج تفسير أحلامك هذه… اذهب يا بني وجد لك مفسراً بعيداً عن معشر الشيوخ، فحلمك يحتاج إلى فلاسفة وصناع قرار ليفسروه.
خرج وظل يتجنب عيني ولساني في لاحق الأيام.
موقف الشيخ الفاضل أدخلني في حالة من الذهول، ولم أعد متأكداً من صحة موقفي الفرِح من حلمي هذا، لكني بقيت مصراً على أن أجد تفسيراً له، الأمر الذي ساقني الى عرّاف في قرية مجاورة.
أجلسني الرجل على الأرض مقابله تماماً، بيننا بضع جمرات على موقد يحرق أعشاباً فتطلق رائحة عبقة من بخورٍ قد احترق لتوه، فملأ جو الغرفة شبه المعتم وتداخل في جزئيات هوائها. أخذت أستنشق والعرّاف ذرّات الهواء المشبعة برائحة البخور، الذي أخذ يتداخل في مسامات جلدي وطيات ملابسي. قرأ الرجل آيات من الذكر الحكيم، أخذ يستدعي الجن والأموات ليساعدوه في تفسير الحلم، ثم قال صارخاً:
ـ حــــــــــــــــــــــــــي.
وأشار علي أن أبدأ بالحديث.
ابتدأت بالحديث، وما أن سرت بحديثي بضع فقرات وجملتين، حتى وقف العرّاف على قدميه، أشعل الضوء واستنهضني قائلاً:
ـ قم، هيا قم ولا أريد أن أراك مجدداً.
قمت ولم أعرف أين ذهب الجن والأموات الذين استدعاهم الرجل، ودون أن يدع لي مجالاً لحديث قال لي سائلاً:
ـ من الذي دفعك إليّ يا رجل؟ أي العرّافين المنافسين فعل ذلك؟
أمام قسمي المتتالي بأن أحداً لم يدفعني قال:
ـ والله لم يدفعك سوى العقيد أبو جابر لتستدرجني في الكلام وتسحب لساني؟ إنه يريد الانتقام مني لأنه يعتبر ما أدفعه له مقابل حمايته لا يكفيه للويسكي الذي يشربه، أعني أقل من الجهد الذي يبذله لحمايتي. يا أخي ارحموني، هل أبقيتم شيئاً لأحدٍ ليعتاش؟
قبل أن أحاول حتى الدفاع عن نفسي، طردني من بيته محذراً:
ـ إياك أن أراك مجدداً ليس أمام بيتي وحسب، بل في القرية كلها، لأنني لن أهتم حينها لا بك ولا بالعقيد نفسه، أفهمت؟
وتمتم هامساً مع نفسه:
ـ “يلعن” أبوك على أبي العقيد، لم تُبقوا لنا شيئاً “نُمصمص” أصابعنا من بعده، وفوق هذا تتجسسون علينا.
أتذكر الآن كلمات والدي أطال الله في عمره، الذي ظل يقول لي أنني رجل عنيد، وها أنا أؤكد على كلماته تلك الآن من جديد، فرغم ماحل بي إلّا أنني ما زلت أبحث عمّن يفسر لي حلمي هذا. وجدتني أشكو همّي إلى صديق لم يكن يوماً مقرباً مني، وظننت دائماً أنه لا يؤمن بأحلام أو تفسير أحلام، وأكاد أجزم أنه لم يدخل يوماً مسجداً أو كنيسة. أقول ذلك كوني لا أعرف ماهية دينه، فاسمه لا يدل على شيء من هذا القبيل، وليس من اللياقة سؤاله عن ذلك… قلت بعد أن دعاني وأجلسني في صالون بيته:
ـ حلمت يا علاء حلماً أبهجني، لكني لم أجد أحداً ليفسره.
نظر إلي طويلاً، ودون حديث منه أكملت غير آبه باستغرابه:
ـ رأيت فيما يرى النائم، اللهم اجعله خيراً، أن قادة الاحتلال يرون في سلطتنا الخطر الأكبر على كيانهم، وأنه لن يمر طويل وقت دون أن تندلع حرب معها، حرب غير مسبوقة لافي حدتها ولا في مدتها.
ابتسم علاء وتابعت أنا:
ـ ستستخدم فيها السلطة ترسانتها الصاروخية “غير العبثية” المكدسة والمخفية، والتي ستنزل على كيانهم بالآلاف، مدمرة مطاراتهم وسفنهم الحربية وطائراتهم ودباباتهم، وتضرب مصافي النفط ومحطات توليد الكهرباء وربما تلجأ لضرب مفاعلهم النووي، وستكون هناك مواجهات برية قاسية، يقودها قادة الأجهزة الأمنية المختلفة.
نظرت الى ردة فعله بطرف عينيّ، لكني لم أجد منه ما رأيته من فضيلة الشيخ ولا من العراف، ورغم الابتسامة التي حاول إخفاءها ماسحاً شواربه بأصابع كفه الأيمن، إلا أنني أكملت دون أن يقاطعني أبداً:
ـ حلمت أنهم أكّدوا أن الحرب ستدور فوق ما استولوا عليه من أرضنا عام النكبة، وداخل المستوطنات التي أقاموها على الأرض جميعها، وأن قوة الشكيمة عند السلطة ستجعلها تحتجز العديد من الأسرى منهم. الأمر الذي سيجعلهم يبادلونهم بآلاف من المعتقلين السياسيين القابعين منذ عشرات السنين داخل معتقلاتهم.
نظرت لوجهه من جديد دون أن يشعر، محاولاً أن أُعطيه المجال لإسكاتي إن كان يريد ذلك كما فعلا من سبقاه، لكنه كان يستمع باهتمام وانتباه، دون أن ينبس ببنت شفة، الأمر الذي شجعني على متابعة سرد حلمي ذاك. قلت متابعاً:
ـ أكدوا أن الحرب ستمتد طويلاً، وستستحيل حرباً شعبية طويلة الأمد، لأن القيادة هيأت الأرض والشعب لهذه المعركة على مدار السنوات السابقة كلها بسرية كاملة.
ارتشف من كأس شايه ليغطي على ضحكة تتفلت للانطلاق دون نجاح، لكنها تحولت لدمعتين لم يستطع إيقافهما. وارتشفت من كأس شاي بين يدي، وأكملت من جديد، بعد أن رأيت علائم الجدية تكسو وجهه الذي كان محروقاً من أشعة الشمس قبل هذا الفصل الشتائي القارس:
ـ لقد رأيت بأم عيني فيما يرى النائم، ـ ورفعت يديّ الى السماء داعياً ـ اللهم اجعله خيراً، أن الرئيس يُشرف على حفر الخنادق الهجومية بنفسه، وأعوانه يشرفون على نصب الصواريخ المعدة للإطلاق من تحت الأرض، كما يشرف وزيره على عمل القناصة، وقائد أمنه بنى الخنادق تحت قصره و…
ما هي إلا لحظات حتى قال علاء كأنه تذكر شيئاً:
ـ يبدو أنك عشت سويعات من أحلام اليقظة!
كاد أن يضحك لولا أن قطعت كلماتي الطريق على ضحكاته:
ـ لا والله لقد كنت أحلم نائماً، وربما سمع شخيري الجيران في تلك الساعة.
قال وما زال مصراً على رأيه:
ـ ربما إذن كنت قد نمت وتركت المذياع أو التلفاز يقول نشرته الإخبارية فظننت أن ذلك حلماً؟
أكدت أن ذلك لم يتم وأن مكان نومي لا يحوي لا مذياعاً ولا تلفازا.ً
قام علاء من غرفة الصالون الى داخل البيت محضرا معه جهاز قياس حرارة الجسم الذي اشتراه ليتابع حرارة طفله كلما كان مريضاً، ودسه في فمي. أخرجته وأخبرته أنني لست مريضاً، وأمام إصراري على رؤيتي لمثل هذا الحلم، نصحني بالتوجه للطبيب قائلاً:
ـ عليك مراجعة الطبيب، ما بك يا رجل؟ أتعتقد أن مثل هؤلاء يقومون بذلك حتى لو في الأحلام؟
كان لوقع سؤاله الأثر المقنع لدي، قلت:
ـ حاضر… سأذهب في الغد لمراجعة الطبيب.
فقال مُدركاً مدى صعوبة حالتي:
ـ ولماذا في الغد؟ خير البر عاجله، هيا بنا الآن، سأوصلك بسيارتي.
كدت أضحك بدوري، فمن يسمعه يتحدث عن سيارته يعتقدها سيارة حقيقية، رغم أنها تمكث عند الميكانيكي أكثر بكثير من أمام بيته، لكني قلت متحدياً:
ـ هيا بنا، فقط لأثبت لك أنني أتمتع بكامل صحتي والحمد لله.
ذهبنا للمشفى وأجريت تحليلاً للدم والبول، وقمنا بتصوير طبقي للدماغ. لم يكن هناك ما يستدعي الخوف، فكل شيء على ما يُرام كما أكد الطبيب المختص سائلاً عن أسباب هذه التحاليل، فقال صديقي في محاولة للتمويه:
ـ انه يرى أحلاماً ويعتقدها حقيقة يا دكتور.
قال الدكتور بعد أن هز رأسه، وأخذ يكتب شيئاً على ورقة أمامه:
ـ هذا اسم طبيب نفسي موصوف، علاجك عنده وليس عندي.
من باب “لاحق العيّار لباب الدار”، قلت لعلاء الذي بدا أنه يريد التراجع عن وصفته بمراجعة الطبيب:
ـ هيا يا علاء، لماذا بدأت بالتراجع؟!
وذهبنا.
كانت صالة الانتظار خالية إلّا من شخص واحد فقط، وانتظرنا دورنا دون حديث تقريباً ما يقارب ساعة كاملة. ثم دخلنا نحن الاثنان، قررت أن أتحدث أنا هذه المرة، فقلت ما قاله علاء للطبيب السابق، لكن بطريقة مختلفة:
ـ يقول البعض يا حكيم أنني أحلم معتقداً أن أحلامي هي حقيقة.
فقال الحكيم مشيراً الى صديقي علاء:
ـ وما علاقة هذا الرجل بذلك؟ يجب أن نتحدث نحن الاثنان فقط ، بمفردنا.
قلت معترضاً:
ـ أرجوك يا حكيم، أريده أن يبقى.
رفع الحكيم من أكتافه، وقال:
ـ كما تريد، لكن هذه المرة فقط.
وتابع:
ـ تعتقد إذن أن أحلامك حقيقة، يجب أن تعلم أن الأمر خطير، ولا بد من أن تكون قادراً على التفريق بين الحلم واليقظة، لكن قبل أن نتحدث في الأمر هل يمكنك أن تُحدثني عن ماهية هذه الأحلام؟
بدأت أسرد حلمي من جديد، شارحاً واصفاً مستعيناً بيدي لتساعدني في ذلك، والحكيم يستمع باهتمام لكل كلمة أقولها، حتى وصلت الى القول: أنني أردت، كل ما أردت، أن أجد من يُفسر لي هذا الحلم، وأنني لم أطلب من أحد تصديقه.
كان الحكيم قد أسند ظهره على مقعده المتحرك، وظل يضرب بقلمه برتابة هادئة بطن كفه، وما أن انتهيت من حديثي حتى رمى قلمه على ظهر الطاولة، وقال بعد أن أطال النظر في عيني:
ـ ليتني أستطيع أن أحلم مثل أحلامك هذه، والأهم لو حلمتها أن أستطيع تصديقها. يبدو أننا أصبحنا بحاجة لنصدق أي شيء يجعلنا نظن أننا ما زلنا نحمل بعض بذور الكرامة أو القليل من عزة النفس. اذهب يا بني… احلم كما شئت، لكن حاول أن تجد طريقة لتحول أحلامك الى حقيقة، واحذر قتلة الأحلام والحالمين، كي لا يقتلوا حلمك في مهده.
قررت أن أظل أحلم ما حييت، حتى لو كانت أحلامي كأحلام العصافير، رغم أنني لم أعرف من الذي عليّ أن أحذره، وخجلت أن أسأل الحكيم عن مقصده، لذا قررت أن أعرف الأمر وحدي.
مجلة قلم رصاص الثقافية