حين عدت إلى سوريا، سكنت في بداية الأمر بمكتب لأحد الأصدقاء، ريثما أجد بيتاً أستأجره، كان المكتب في منطقة الحمرا، خلف الكنيسة، في مدينة طرطوس. بين المكتب والكنيسة أو المطرانية ثمة شارع لا يتجاوز عرضه ستة أمتار.
ذات يوم أعلنت المطرانية أنها ستوزع مساعدات على الفقراء، فتوافد الكثير من الفقراء والمحتاجين والنازحين، رجال ونساء وأطفال. وتجمعوا بانتظار أن تفتح المطرانية أبوابها. بعضهم افترش الأرض بمحاذاة الجدار، وبعضهم راح يمشي جيئة وذهاباً ليبدد الوقت، وثمة رجلان استندا على جدار المكتب الذي أقطنه، وراحا يتحدثان.
لم يكن بالإمكان تجاهل حديثهما، نتيجة صوتهما المرتفع، ووجودهما بجانب المكتب. أحدهما كان يحكي للآخر عن مشكلة وقعت بينه وبين شخص آخر، وكيف أنه شتمه، وضربه، ولولا أن الجيران حضروا، وحجزوه عنه، لفعل كذا.. وكذا.. كان يتحدث وكأنه بطل في ساحة الوغى.
فقال لي ابني، أنه يريد أن يخرج إليهم ويطلب منهم أن يخفضوا أصواتهم. فقلت لا يا بني، لا داعي للحديث معهم، فاستغرب ابني، ونظر إلي بعيون تملؤها الدهشة. فقلت يا بني، هناك منطقان للتفاهم بين الناس، منطق الإقناع، ومنطق الإخضاع.
منطق الإقناع يلزمه علم وثقافة ومعرفة، وهذه الأقانيم الثلاثة لم تتوفر لهؤلاء الناس. وثمة حامل آخر اسمه الأدب، أو الأخلاق، أو التربية، وهذا الحامل حين يتوفر لشخص ما، أيضا يستر عيوبه. فالتربية جذورها مرّة، ولكن ثمارها حلوة. وحين يفتقد الإنسان كل ذلك، يصبح الحديث معه بدون جدوى.
هذا البطل الذي تراه الآن (يرغي ويزبد)، ليس واضحا بالنسبة له مفهوم الكرامة، وهذا الالتباس يعاني منه الكثير من الناس. فالكرامة ليست امتلاك المفاخر، بل استحقاقها. وتعريف الرجولة ملتبس أيضا، فالرجل حسب رأي أفلاطون هو شخص يبحث عن المعنى. وهذا ما يؤكده نيلسون مانديلا، حيث يقول: عند خروجي من السجن أدركت أنه إن لم أترك كراهيتي خلفي فإنني سأظل سجينا. المشكلة يا بني أن الناس ما زالت تفضل بناء الجدران، وليس الجسور!!
مجلة قلم رصاص الثقافية