الرئيسية » رصاص ناعم » لحظة تحوّل

لحظة تحوّل

إنه يوم نيساني مشمس، بدا استثنائياً لـ”زياد معمر”. ففي هذا الصباح نهض الشاب من سريره، وقد طغى عليه شعور أنه انسان متحرر من قيده. كأنه ولد من جديد بحلة جديدة. حدث هذا بعد ليالٍ من التفكير المرهق، شهد معها مخاضاً فكرياً كانت ثمرته فكرة غريبة واتته قبيل منتصف ليل البارحة. والمفاجئ أن هذه الاستنارة العقلية جاءت بلبوس مقنع فأضاءت جانباً خفياً من روحه الكئيبة، واكتسحت لواعج نفسه بالحماسة لفعل أمر بدا دراماتيكياً، بعد أن كان ولسنوات طوال قد اعتاد العيش بقنوط وخنوع ورتابة.

 لماذا حدث هذا؟ وكيف؟ لا يعلم ولا يمكنه التفسير حتى.. فهو طالما كان الرجل الثلاثيني العازب الذي اعتاد السير بجوار جدران الحياة مبتعداً عن كل حفرها.. هكذا هو عفوي، بسيط، لطيف ومحبوب من أهله ورفاقه وزملاء العمل. وقد يكون هذا كافياً للعيش بسعادة لولا ذاك الحمل القلبي الثقيل الذي عنوانه المرارة لعدم العيش بمستوى أفضل.

 هذا الشعور الواخز الذي لم يغادر قلبه وروحه قطّ  لم يكن مقنعاً لأحد من أقاربه. إذ سيقول قائل: “لم تعذيب النفس؟ صحيح أن الفقر كان حليفه الدائم إلا أن العوز تحاشاه، وهو على الرغم من عدم إنجازه لما يميزه عن الآخرين، إلا أنه حاز على وظيفة إدارية ممن يشغلها ملايين من أمثاله في هذه الحياة . فلم  المرارة؟!…هل التوق إلى الأفضل يجعل الإنسان تعيساً؟ ولكن ماذا عن القناعة؟ ألا يكفي الإنسان أن يتمكن من تلبية احتياجاته ويبقى في مساحة الظل هائماً مع حشود أشباهه من البشر ليكون سعيداً؟ في النهاية هذا الحال ليس بالأمر الجلل”.. لكن بأي حال سيبقى هذا الكلام بعيداً كثيراً عن عقل زياد معمر وقلبه..

إذاً وفيما نهض الشاب من سريره، وبدأ يمارس طقوسه الصباحية. كانت لاتزال تعنّ على ذهنه المتعب أضغاث أحلام الأمس وكوابيس تلك الفكرة الغريبة التي جاءت بلبوسٍ ملح مع تكرار كلمة “أنا.. أنا أريد.. أنا يجب..”. وفي غمرة انشغاله رنّ هاتفه ليكون المتصل زوجة عمّه السيدة الستينية الطيبة “أمينة”.. لم يكن اتصالها مفاجئاً كلياً، فهو واحد من الاتصالات التي دأبت عليها في مسعىً منها لطلب المساعدة لإصلاح عطل ما في منزلها، أو لنقل غرض ثقيل يصعب عليها تحريكه ..

إذاً لم يتأخر رد الرجل. والذي قال كالمعتاد: “نعم ..تكرمي ..حالاً..آتيك..قبل ذهابي إلى العمل”.. فكيف يخيّب لها رجاء وهي  المرأة المحبّة التي باتت وحيدة بعد أن عصفت بها أقدار الحياة؟!.

 لحظات وكان “زياد معمر” بقامته المتوسطة يمشي محني الرأس، متسارع الخطى، فيما كان قلبه ينبض بشدة  تحت وطأة فكرة واحدة لا تزال تضجّ في رأسه المثقل بأناه:..آه…أنا لم؟..أنا كيف؟.. أنا سوف ..أنااا..

من حوله بدت المدينة صاخبة كعادتها ..المارة يغدون جيئة وذهاباً يحملون ذات التعابير المألوفة ما بين فرح وحزن ..بخلاف زياد. إذ كانت ملامحه اليوم متغيرة بعض الشيء ليس كملامح امرأة وضعت قناعاً من الزينة على وجهها ..لا..إنما ملامحه كانت ذات طابع آخر وليدٍ بدا مبهماً وغير قابل للتأويل …

كان البيت على بعد شارعين من منزله ..لذا لم يتأخر وصوله ..وعندما رن جرس الباب.. تفاجأ أنه لم يلق جواباً..أعاد الضغط بتوتر على زر الجرس عدة مرات ..

كانت المرأة الكهلة في الداخل تشاهد برنامجاً تلفزيونياً يحكي عن عالم الحيوان والحشرات.. فاستغرقت عميقاً في ملاحقة تطور أشكال تلك الديدان. وقد أذهلتها قدرة الدودة القبيحة على الخروج من شرنقتها والتحول إلى فراشة في غاية الجمال..حتى ذاك العثّ المقزز أدهشها بقدرته على تغيير شكله والتحول من هيئة إلى أخرى أكثر اكتمالاً وتعقيداً..

بعد حين  تنبهت السيدة إلى صوت الجرس، فنهضت مسرعة لتفتح الباب، وتدخل قريبها الشاب وهي تتأهل به فرحة وممتنة لتلبية طلبها والمجيء بسرعة ..من ثم  باشرت تسهب في حديثها حول مشكلة الغسالة التي لا تلبث أن تتوقف في منتصف العمل من دون إكمال دورة الغسيل، فيما كان يهز رأسه متبرماً وهو يسير خلفها إلى المطبخ حيث تقبع الآلة العتيقة …

 تنهد زياد وهو يشعر بعبء المنتظر، ثم انحنى وألقى نظرة متفحصة على الآلة، وأخذ يتمتم :

” على الأغلب نحتاج إلى إحضار شخص تقني مختص” ..

– ” أوف. حقاً لا يمكنك حلّ المشكلة؟ ..إذاً أحضر من تراه مناسباً”.. قالت أمينة وهي تحوم بين الصالة والمطبخ بينما كانت عيناها لاتفارقان الديدان والشرانق والفراشات الزاهية على الشاشة الملونة.

لم يتمكن زياد من النهوض حالاً..إذ حدث في تلك اللحظة أن راودته فكرة الأمس العاتية وأخذت تلطم جنبات نفسه.. وفيما ظلّ منحنياً قرب تلك الآلة، كان نظره  قد ذهب بعيداً عن المعدن البارد ليستقر مطولاً على ساقي المرأة وهما تغدوان من حوله.. أخذت أناه في ذات الوقت تصيح باهتياج في رأسه: أنا أريد .. أنا أستحق..أنا …

كانت الثواني السريعة تمرّ كدهر.. و كلمة “أنا” لا تتوقف عن الترداد  في ذاك الرأس الضخم بثوب من الصراخ والعويل..

ها هي ربلتي الساقين المتهدلتين تصبحان في مواجهة وجهه. مما يعني أن السيدة قد أدارت ظهرها إليه لتتابع تحوّل تلك المخلوقات المدهشة.. صوت حدّثه :”إنها الفرصة المواتية الآن..إذ لا يتحتم عليّ النظر في عينيها  الذابلتين” …

 نهض من دون تردد. وبلمح البصر استلّ سكيناً وقفز من مكانه كشبح غير مرئي ليغمده بسرعة في ظهر المرأة ..ثم أخرج النصل تحت شهقات ألمها، ورعبها، وأغمده في جسدها المتغضن مرة أخرى ..

 استلقت أمينة بذهول على الأرض غارقة في دمائها.  حدثت نفسها :” لماذا أنا؟ لماذا هو؟.

 في الوقت ذاته قفز الرجل كالعثّ من فوق جسدها المحتضر. متحاشياً النظر ورؤية الدهشة والعتب في عينيها. وبدأ البحث المسعور عن الذهب والمال في أدراج غرفة النوم …

 كان التلفاز لا يزال يعرض أطوار تحوّل الجراد والفراشات.. فيما كانت بنات أفكار المرأة تدور في فلك عدم التصديق تحت وقع حشرجاتها الأخيرة. ظلال أسئلة خيمت على مخيلتها: لم؟ وكيف استطاع فعل ذلك؟ كيف أمكن لإنسان أن يلبس لبوس الحمل الوديع عمراً، ومن ثمّ في لحظة واحدة يخلع عباءة الماضي البريء ليرتدي حلة الإجرام البشعة..

لم يطل الأمر حتى خرج زياد من البيت متسللاً. يشدّ كيساً ثميناً إلى صدره ارتأى أنه سيجعل حياته أفضل. فيما كانت أناه تضجّ في أذنيه مبتهجة بتحقيق مرادها :” أنا ..أنا أستحق.. أنا أريد “.. وأخذت أناه تسول لنفسه أفكاراً ومبررات تثبت براءته وتؤكد غيابه وقت الجريمة…

أما المرأة المسكينة فلو أمكن سؤالها لأقسمت أنها رأت قبل أن ينطفىء نور عينيها مخلوقاً بشرياً وسيماً ومحباً يخلع جناحي آدميته الجميلة ليدخل شرنقة الشرّ القبيح.. لقد رأت بأمّ العين كيف تمّ التحوّل الأخير لهذا الكائن والذي طال أمد انتظاره لما يزيد عن ثلاثين عاماً ، ليكتمل تحت ضوء الشمس في ذاك النهار النيساني.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن الزا نصره

الزا نصره
مهندسة سورية، كاتبة قصة قصيرة، صدر لها مجموعة بعنوان: "عابرون" عن دار نينوى في دمشق، ولها مقالات منشورة في بعض الصحف والمواقع الإلكترونية، ولديها مخطوطات تحت الطبع.

شاهد أيضاً

رولا عبد الحميد تقول: إنها تجلس وحيدة في حضرة المحبوب

يقوم نص الرواية على حكاية حبَ بين حبيبين لا يلتقيان أبداَ، يدقَ قلبها، وتشعر بالاضطراب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *