أ. عقيل الخطيب |
وأنا بصدد إتمام رواية “زافون “العالمية، ذات السحر العجيب والتي لم تبلغها بعد في قيمتها أي رواية أخرى ، استوقفتني أطروحة بديعة تتعلق بالعلاقة بين القارئ والمبدع والنص ضمنها في الجزء الأخير من “مقبرة الكتب المنسية” ذات الأربعة الأجزاء وتحديدا في “متاهة الأرواح ” في صفحتها 967 حيث يورد “زافون “على لسان “خوليان كراكس” قاعدته التالية: “ليس للحكاية بداية ولا نهاية، إنما مداخل”. الحكاية متاهة لا حدود لها مكونة من كلمات وصور وأفكار وأرواح تتحد لتكشف لنا الحقيقة الخافية عنا نحن أنفسنا. الحكاية في صميمها، محادثة بين من يرويها ومن يسمعها. فالراوي لا يعول إلا على قدراته التي تمده بها الصنعة، والقارئ لا يقرأ إلا ما كان مكتوبا في وجدانه أساسا.
هذه هي القاعدة الذهبية التي تنبني عليها كل فنون الورق والحبر. فعندما تنطفئ الأضواء، وتصمت الموسيقى، وتفرغ الخشبة، لا شيء يحافظ على قيمته سوى السراب الذي يبقى مطبوعا في مسرح المخيلة الذي يحمله كل قارئ في ذهنه، والأمل الذي يحمله كل صانع حكايات في قلبه: أن يكون القارئ قد فتح صدره لأحد مخلوقاته الورقية وقد منحها جزءا من ذاته لتخليدها، وإن لبضع دقائق”.
من فوري سجلت الأطروحة وعزمت على ألا أستحضرها إلا بما أراه مناسبا لها، وحينها لم يدر بخلدي أن الصديق ” نصر سامي” سيكون هو صاحب الحظ الذي نال شرف الجيرة ل “كارلوس زافون”. نعم ليس للحكاية بداية لدى الصديق المبدع “نصر سامي” وقد لا تكون لديه نهاية، لكن بالتأكيد ثمة مداخل خاصة وهو يتحفنا بروايته الأخيرة “برلتراس”، رواية مرعبة في قتامتها، مذهلة في حبكة سرديتها، سوداوية في مضمونها، لكنها بديعة في جوهر رسالتها.
أي المداخل تتخير لها؟ وأنت القارئ الذي مازال في بداية التعرف على المؤلف ” نصر سامي” الزميل الخلوق، والرائع في تواضعه، والذي كان هدية وزارة التربية لمعهدنا هذه السنة، وحوّل قاعة الأساتذة فيها إلى ورشة نشاط وخلية جدل، ولم يكن لي به سابق معرفة رغم أنه يكتب كثيرا وهذا خلل في موقفي المسبق واليائس من قدرة التونسي على الإبداع القصصي .
أمدني بروايتين له، أولاهما فازت بجائزة كتارا الشهيرة سنة 2017 وعنوانها “الطائر البشري” والثانية وقد فازت هي الأخرى سنة 2015 بجائزة الشارقة وعنوانها “حكايات جابر الراعي” لأكتشف فيه أنه قد ملك ناصية السرد، وأن له قدرات في فن الرواية واعد ة وهو كفيل بتغيير حكم طالما كنت أردده بأن الشعر كان قد مات بموت “الشابي” في ربوعنا كموت النثر بموت “المسعدي”.
فالرجل شاعر، ورسام تشكيلي، وأديب روائي وقلما تجتمع هذه الصفات في شخص واحد ولهذا السبب قد ينجح في نحت اسمه ضمن عباقرة الرواية العربية، إن واصل طريقه بهذا الزخم، وعالج ثغرات نصوصه السردية بتواضع المبدعين، وصرامة المفكرين الحقيقيين، وخاصة بتجاوز لغو السطحيين من أشباه النخب التي تبدو نجوما وما هي في الحقيقة إلا بقايا أضواء لنجوم ماتت منذ آلاف السنوات الضوئية.
روايته التي صدرت أخيرا جعل لها عنوانا غريبا “برلتراس”، وكغرابة العنوان تفاجؤك شخوصها وأبطالها، بل نباتها وشجرها وحيوانها وحتى حجرها وسماؤها، وتقحمك وأنت تقرؤها في عالم الموت والشر والظلام، فهي تنتمي لعالم روائي مضاد للرواية “اليوتوبية”، الروايات التي تتهكم علينا وهي تخدرنا بعالم جميل تطيب فيه الحياة، وتتحقق فيه السعادة والخير والجمال.
وهي أيضا لا تنتمي لروايات الواقع، حيث يجهد المبدع كل إمكانيته، ويسخر كل قواه في نقل صورة أمينة للواقع الإنساني، في صراع قوى الشر مع الخير، في انحطاط الإنسان وهزائمه ولكن أيضا في انتصاراته، في الحب والكره، في المرض والصحة، في الفقر والغنى، في كل شيء وحتى لا شيء.
“برلتراس” تنتمي لعالم الرواية المعاصرة، والتي تعرف ب “الديستوبيا” والتي أصبح لها جمهورها في الغرب خاصة بعد نكسة الحداثة، وظهور الكوارث السياسية والاجتماعية وحتى الصحة بفعل التقدم العلمي والتقني الهائل مع تراجع البعد القيمي والأخلاقي، تراجع رهيب صرح إثره الفيلسوف العظيم “هايدجر” قائلا: “إن إلاها وحده قادر على أن ينجينا”. وكان “نيتشه” قد تنبه بفطنته للمصير الأسود للإنسانية وهي تقتل الله.
لم يبدأ تاريخ نشأة الديستوبيا برواية “أرويل” 1948، ولكنها كرواية كانت الأشهر حتى أنها كادت تحجب روايته القصيرة “جمهورية الحيوانات”، ولقد نجح “أرويل” في فضح الدولة وهي تتحول إلى سلطة كليانية، تتحكم في كل شيء وتراقب وتعاقب بلا هوادة ولا رحمة، حتى الأحلام تغدو في الدولة المعاصرة جريمة، يعاقب صاحبها، فعالمنا ، عالم الحداثة هذا، العاري من كل قيمة إلا قيمة السلطة، يتم تبرير كل موقف وكل حركة وكل فعل.
رواية “برلتراس” إن اخترت لها قرانا فلن تكون سوى “جمهورية الحيوان”، لكنها تفوقها في نواح عدة، فرواية “أرويل” كانت مختصرة وغيبت تفاصيل كثيرة، في حين أبدع قلم “نصر سامي” في حبكته الروائية وغاص في تفاصيل مهمة، وما الرواية إلا قدرة على التفاصيل، وبديهي في هذه الحالة أن تكون روايته أضخم وأدسم، رواية “1948” أو “جمهورية الحيوان” كانت واضحة، مباشرة، تقول ما تريد، وتريد ما تقول، في حين “برلتراس” تقول الكثير من خلال القليل، تشير ولا تبدي، ترمز ولا توضح، تبطن ولا تظهر. ومن هنا في نظري تكمن أهميتها وخطورتها بل وتفوقها على مثيلاتها من الدوستيبيات العربية إن وجدت والغربية التي اشتهرت، فنجاح المبدع وهنا ميزة صاحب “برلتراس” أن يحارب بنصوصه كسل القارئ ، ويستدعيه معه ليفكر في واقعه، وينتصر للمثل العليا، أو حتى يكفر بها، المهم ألا يكتفي بمتعة القراءة.
تستفزك الرواية بسوداويتها، وظلامها وليلها الحالك، وهو يقارب الواقع العربي المعاصر، هذا العربي المخصي في فحولته، والذي يراد له المسخ والصلب والتقطيع من خلاف والذي تجرب فيه الحداثة أشد أنواع التجارب قسوة وقتامة، لتواصل القراءة لآخر صفحة، وأنت إن كنت مثلي متفائلا، تربكك “برلتراس” وهي تفضح واقعك البذيء، وتأخذك في رحلة مع الرواة الأربعة: “صبح” و”تبر” و”حيا الله حسن” المشهور ب “الزيني” و”أمجد”. ثم وهم يسيحون بك في عالم الرعب والخوف والظلام ، وتسافر معهم في جولاتهم المخيفة وقد تكرههم، لكن بمجرد ربط “أمجد” بالشعر وشرحه، والسعي لتدوينه وحفظه من النسيان، تحبه أكثر، ف “أمجد” شخصية لا تعرف اليأس وتقاوم الجفاف الروحي والمعنوي، وهو بسعيه لإنقاذ الثقافة الشفوية عبر نماذج اختارها “نصر سامي” لشعراء “المفضليات”، ويعلم الدارسون أنهم ليسوا الأشهر ولا الأبدع، لأن أمة تتخير الشعر ديوانها ، لا تعدم أن تبدع قديما أو حديثا في فن الشعر من هو أفضل مما تخيره لنا المبدع. ومن ثم ستسأل نفسك وتبحث عن دلالات هذا الاختيار وقيمه، وستتحاور مع الرواة الأربعة وبالطبع مع “نصر سامي” وإذا تم هذا تكون الرواية قد نجحت.
قلت إن جمهورية الحيوان ل “أرويل” شخوصها وأبطالها حيوانات تمردت، وتصدرت المشهد السياسي وأنجزت ثورة، فهي رواية فاضحة، تدين الواقع السياسي المعاصر بطريقة مباشرة وكاريكاتورية، أما رواية “برلتراس” فقد تخير لها “نصر سامي” أبطالا من البشر الذين مسخوا أحصنة وبجعات، تقول الرواية منذ بدايتها: “أكثر رجال برلتراس، يتحولون إلى أحصنة، ويطيرون. لا يعرف أحد إلى أين؟ لكنهم يطيرون. وأغلب النساء يتحولن إلى بجعات، ويطرن بعيدا. بعضهن فقط، يتحولن إلى أفراس على غير عادة النساء في التحول، ولا يبقى إلا أمجد. الباقون من البشر يطبق عليهم قلق أسود ثقيل. لا تنبت لهم إلا أجنحة ذات زغب أبيض، لا يشتد ليصبح ريشا. تضل أفواههم لحمية، ولا تنبت لهم مثل غيرهم مناقير، وعيونهم تضل منطفئة، وأمجد نفسه لا يتحول، يضل يغرس شجرا في السهل المنبسط”.
تقرأ في العلوم أن الحياة تتطور وتنتقل من سابح الى برمائي، فطائر إلى كائن ذي قوائم أربعة إلى “ذي القائمتين” وهو الإنسان وقد اكتمل نموه وتطوره، لكن “نصر سامي” في روايته يخبرك منذ البداية بأنه في عالم “برلتراس” يتحول البشر إلى “ذوي الأربعة”. ماذا يقصد بذلك؟ وأين توجد “برلتراس؟”. وماذا يعني هذا الاسم؟ وأخيرا لماذا هذا الإصرار الغريب على الموت والفشل والتعذيب؟
يجيبك “أمجد” بطل الرواية وأحد الشخصيات الرئيسية التي أحببتها في الفصل التاسع وفي الصفحة 68 يقول وهو يخاطب الراوي “صبح”: “أتعرف ما معنى برلتراس؟”. قلت له لا أعلم، فقال أصلها بالعربية بر الأطراس، والطرس هو الصحيفة، وجمعها صحائف، برلتراس يا صديقي هي بر الصحائف القديمة”.
واضح أن “نصر سامي” يستدرجك لعالمنا بهذه التسمية، نعم منطقتنا العربية هي منطقة ولادة الحرف والرقم، وهي بلاد الديانات، وفيها نشأت الحضارات وعلمت الإنسانية القيم، لكن ذاك ماضيها الناصع عندما كانت تبدع ، وعندما كانت حية أما منذ ليلها الحضاري، وتحول الرقم والحرف والعدد للضفة الأخرى، منذ الانسحاب من التاريخ ومنطقتنا تتراجع، وتنحط وتنهزم وتفشل لذا حق للبشر فيها أن ينسحبوا من بشريتهم ويتحولوا لحيوانات وأحصنة يركبها الغرباء. هكذا إذا كانت ديستوبيا “نصر سامي” سياسية للنخاع وواقعية للعمق، تفضح الإنسان العربي، وتعريه أمام نفسه، وتلزمه إن بقيت لديه كرامة إنسان أن يتحرك، أن يواجه ويقاوم.
ذكرتني “برلتراس” بمقولة شاعر عراقي كان لا يخجل من وصف الانحطاط العربي بأشد العبارات وقاحة، إذ سئل احتجاجا عن ذلك فرد بمقولة صارت مضرب الأمثال: “أروني واقعا أقل قبحا من كلماتي وأشعاري”.
“برلتراس” هي الواقع الوقح، ولأن الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج يعامل كحيوان فاقد لكرامته إن في عيشه أو في نومه، وهو إن عوقب تفنن جلاده في إبداع صنوف التعذيب والفتك حتى قيل في السجن العربي “إنه عالم فيه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر”. عالم “برلتراس” فسحة في التعذيب والدمار والإرهاب، فيه القتل يتم بدم بارد ودون ندم والضحية لا يعرف لم قتل؟ وعلى ماذا؟
في الرواية تتحول الشخصيات إلى أرقام، شخصيات مسخت ورقمت، ثم أحرقت ودفنت، تحاول أن تفك أسرار هذا المصير البائس والقاتم، فلا تظفر إلا بعبث وجنون الواقع وكأن ما يجري في عالمنا لا يخضع لمنطق أو قانون. شيء واحد يبقيك في عالم الرواية هو الشعر . هل لأن “نصر سامي” هنا يريد أن يرسل لنا رسالة، هي نفسها التي انتهى إليها “هايدجر” وهو يعلن أن الشعر هو الذي ينجينا؟ كلا إذا اعتبرنا أن الفصل 13 من الرواية يفضح الكاتب والرواية نفسها وللرقم 13 دلالته التشاؤمية وليس صدفة أن يضمن المبدع هذا الحوار بين البطلين “أمجد” المتفائل و”صبح” المتشائم: “لا يترك أمجد تفصيلا لغويا أو بلاغيا إلا ويذكره، وحين يصفو ذهنه، فإنه يسترسل في شرحه استرسالا تطرب له النفس، ويلين به الخاطر. تصبح القصائد معه بينة المعاني، يقول لي: “القصيدة شجرة”، أجاريه ساخرا: “وأهل برلتراس فؤوس”. يدير لي رأسه كالملسوع، وتهتز عيناه، لكنه يصمت، يندق في صوته حجر حام، ثم يستعيد برودته قائلا: “القصيدة شجرة، تحفى دونها الفؤوس”. فابتسم دون أن أتكلم، وأقول في نفسي: “فؤوس برلتراس لا تحفى أبدا، فؤوس بر لتراس…”.
هو إذن “صبح” الأقرب لسوداوية المبدع وحقيقة ما يكتب، ولكنه دون أن يشعر تمكن من إكمال مشروع “أمجد” في حفظ الذاكرة الشعرية بالتعاون مع “أمجد” و”تبر” كما يتبين لنا من الرواية. هل يمكن تلخيص العمل الإبداعي وإعطاء فكرة عامة وصادقة عنه؟ الجواب كلا، لأن العمل يتطلب جهدا وتفكيرا ومشاركة وقبل ذلك ثقافة موسوعية بالماضي البعيد والقريب بكل ما هو منتج ثقافي شفوي بما في ذلك “الدارجة” والرواية لم تخل من بعض النماذج للشعر العامي، وحتى المرقون والمخطوط، لتستطيع فهم الخيط الناظم الذي يربط الأحداث والشخوص.
كل الحكاية تتلخص في رواية ينقلها “صبح” عن دنيا وناس “برلتراس”. وقد نبهك المبدع “نصر سامي” بسوداويته أو سوداوية العالم المروي عنه من خلال استشهاده بنص قصير للعبقري “جوزيه ساراماغو” حول تبرير التشاؤم وخاصة الموقف السلبي من الديموقراطية في فاتحة الكتاب.
كان عليك أن تنتظر الفصل 24 ليتبين لك أن كل عالم “برلتراس” إنما يدار من المكتب الأبيض، المبنى الموجود على تلة “الراجبوت العليا” وأن “أمجد” هو من يدير الأمر وأنه الفاعل الرئيسي والمخطط لكل شيء تحت رقابة مسوخ لا تراهم العين، فالكل هنا موظف ومكلف بمهمة وطبعا على رأسها وقمتها القتل والدمار والعذاب بصنوفه وألوانه التي لا تحصى.
التقى “صبح” منذ البداية وهو المخبر والوقح والمزواج والذي أهمل زوجته وأبناءه، وتزوج فضة وأنجبت له ولدين وهي ابنة صديقه الشاعر الضرير، وينبؤك أنه خاض عديد التجارب والزيجات، “سهى” و”صبح الثانية” وغيرهما، وكان مخبرا وبصاصا يكتب التقارير ويقتل بدم بارد، لحين لقائه وتعرفه على مخبر أرقى منه هو “أمجد” فحدثه عن الشعر وعن حبه الأبدي وعشقه ل”روح”، وأحبا بعضهما بعضا، ولكنه في لحظة تأتيه الأوامر بضرورة التخلص من “أمجد” فيفعل ويبول عليه، لقد أقنعوه بأنه ورقة محروقة، لكنه سيظهر له لاحقا في البيت الأبيض بتلة الراجبوت!
يموت الراوي “أمجد “وهو يقرأ قصائد ل “سويد اليشكري” بأبياتها 180 ول “الأخنس” و”جابر بن حني التغلبي” إذ نخر الترمد لحمه وعظمه وسرى في عروقه، ليأخذ عنه مشعل حفظ المشروع وتدوين الشعر” كل من “تبر” و”صبح”. وللأسماء هنا دلالاتها، فكما “بر لتراس” تعني ما سبق ل “أمجد” أن وضحه فكذلك هنا “فضة” و”صبح” و”تبر” بل حتى صفة “الشاعر الضرير ” تأخذك نحو “معرة النعمان”.
وسط هذا العالم الشرير والوقح من “بر لتراس” حيث الكل يموت، ويتحول إلى مسوخ أو حيوانات أو أطيار، يفاجؤك “نصر سامي” ببعثه لأرواح كانت أجسادها قد فنيت، وأرواح المبتعثين لا تستطيع أن تراهم المسوخ أعداء “برلتراس”، وتعجب لهذا البعث وقدرة الراوي على نسج الخيال، وكأنه بهذا البعث ينتصر لديه الإنسان الخير والمتفائل، ف “بر لتراس” لا تموت، تمسخ، تنهزم، تنحط لكن تبعث من بعيد وهذه جرعة أمل أو هكذا أحب أن أفهمها. الجميل في كل العمل هو العناية بالشعر وإنقاذه من النسيان. وهذا هو الخير الذي التقى حوله كل الأشرار أمجد، صبح، تبر، والزيني.
للأمانة، فصول الرواية الكثيرة 34 فصلا بملحقها الشعري لشعراء المفضليات، ليست على صعيد واحد من المتانة والحبكة، بل تتقلب فيها روح الإبداع هبوطا وصعودا بحسب الأحداث الكبرى التي نعيشها في عالمنا العربي، وممكن إرهاصات الكتابة تنتمي لزمن ما قبل الربيع العربي، لكن الإنجاز كان بالتأكيد في السنوات الأخيرة وقد لعب “الأشرار” بالثورات العربية وعبث بها العابثون أكانوا أهلها وذويها أو أعداء ها وكارهيها، ومهما كان الموقف من الثورة كحدث سياسي فارق في منطقتنا، فإن رواية “برلتراس” أوفت الثورة حقها، وأتت على ذكرها، في الفصل 15 تلميحا ثم تصريحا عندما فر الرئيس بطائرته ويسميه “كبير المسوخ” في الصفحة 11 ثم تحدثت عن اللاعبين الجدد الهواة ورغم أن الرواية تذهب متسارعة مع نسق الأحداث وتدين حاجة الجدد للقدم، ويفسر ذلك بمفهوم الدولة العميقة. ويلتقي هنا دون أن يشعر مع ذات التفسير الذي يردده أنصار الثورة.
الفصل 32 إسقاط لا أقرّه عليه حول تقييم التجربة السياسية في وطننا العزيز وواضح أنه متأثر ب “ساراماغو” اليساري الطوباوي حول ما يسميه نكتة الديموقراطية.
ثمة ما يمكن نقده في الرواية، وهذا ليس أوانه، لكنها برأيي نجحت في أن تكون مفاجأة السنة، خاصة والأحداث السياسية في العالم تكاد تتجه نحو أزمة كونية لفشل الديموقراطية التمثيلية، مما يمنحها جدة وجدارة خاصة في تعرية الفشل وخاصة القبح، غير أني أقف في الجهة المقابلة للروايات الديستوبية، فأنا واثق من أن الإنسانية ستتجاوز هذه الأزمة وما يعنيني من الأدب متعته، وخاصة قضاياه وإشكالياته.
أخيرا أقول ما قاله الشاعر الفرنسي “جيوتييه تيوفيل” حول النحات والمصور الألماني والمعروف ب “شكسبير” ألمانيا للتصوير الزيتي السيد “ديرر” صاحب الأعمال الخالدة: “الموت والشيطان” و”القديس جيروم في مكتبه” و”ميلانخوليا” وهذه الأخيرة كانت نقشا على الخشب لا يتكرر.
مدحه متأثرا بعمله الأخير “ميلانخوليا” قائلا:
ديرر، لقد صورت نفسك في سوداويتك
وعبقريتك الدامغة، إشفاقا عليك، قد جسدتك في إبداعك
ولست أدري ما الذي يمكن أن يكون أكثر روعة في هذا العالم،
أكثر امتلاء بالحلم والألم المبرح العميق،
من هذا الملاك العظيم الذي أجلس على مقعد.
ف “بر لتراس” قد تلعب في أدبنا ما لعبته “الميلانخوليا” في النقوش بالخشب في الثقافة الغربية.
شكرا “نصر سامي” على هذه الرواية، ليس لأنك بها حركت سواكن راكدة ولكن لأنك تشاركنا مروياتك وأبطالك، وتقحمنا في حياتهم، وقد تنجح في قلب الأدوار. وإلى مزيد من الأعمال، خاصة وقد نجحت في تطويع القلم، وما بقي أمامك غير تطويع الفكر بأمل محيط.
مجلة قلم رصاص الثقافية