الرئيسية » رصاص ناعم » طعم الخذلان
لوحة للفنانة أحلام المشهدي

طعم الخذلان

سُكينة هكّو  |  المغرب

هل كنت تعلمين أن للمشاعر والأحاسيس أيضاً، طعم ولون ورائحة ككل الأشياء المحيطة بنا؟

كانت هذه الجملة التي خطتها يدك على الصفحة الأولى من كتاب عن نفس الموضوع، كنت قد وضعته على مكتبي كهدية بعد أن اكتشفت شغفي بالقراءة، فاتخذته باباً يوصلك إليّ. وقد أصبت الاختيار فعلاً، فلم تكن بحاجة لأكثر من كتاب تصُفّ أوراقه واحدة تلو أخرى، فترسم لك الأوراق طريقاً إلى قلب لا تحركه سوى رائحة الكتب.

أما عن سؤالك، فكثيراً ما سمعت أن للسعادة مذاقاً حلواً وأن للحزن مرارة لا يحيلها أي فرح بعده سكرا. ولكني لم أكن من أولئك الذين ينشغلون بالتمييز بين ألوان المشاعر أو رائحتها أو طعمها، أنا كنت أنتمي لأولئك الذين يعيشونها وكفى. كنت قد تركت لي ملاحظات على كل صفحات الكتاب تقريبا، أما الصفحة الأخيرة، فكانت تحمل وعدا منك بألا تسمح للحياة أن تذيقني من المشاعر إلا أحلاها، أطيبها رائحة والتي تضاهي أجنحة الفراشات في جمال ألوانها.

ومازلت منذ ذلك اليوم أحاول أن أفهم هل أخطأت أنت في كتابة كلمات الوعد أم أن الحياة هي التي أخطأت في قراءته وتنفيذه؟

فلم أكن قد عرفت للخذلان طعماً حتى عرفتك، ذلك أني ما انتظرت يوما شيئا من الحياة. ثم جئت أنت، فاعتقدت أنها كافأتني بك عن كل السنين التي لم أرهقها فيها بالتمني والرجاء، عن العمر الذي عشته قانعة راضية بالفتات الذي كانت تخنق به صوت التمني في حنجرتي. لأكتشف أنها عاقبتني بك، ذلك أن الفتات كان طُعما من المفترض أن يُسيل لعاب الحلم، فأتذلل لها وأتوسل إليها أن تمنحني أكثر، لا أن تأخذني العزة بالنفس، فيفقد قاموس كلماتي كل الحروف التي من شأنها أن تُكوّن عبارات تبدأ بالتضرع وتنتهي بالاستجداء.

منذ عرفتك صار الخذلان نصيبي من الحياة، وعرف طعمه المر طريقه إلي، حتى سكنت المرارة فمي واستوطنت خلايا التذوق الخاصة بي فما عدت أستسيغ الطعام، وغادرني الشعور بالجوع إلى غير رجعة، حتى تلك الرغبة في سد الرمق من أجل البقاء ما عادت تراودني. ثم حدث أن توقفت عن الأكل وخسرت من وزني الشيء الكثير، وصار الدوار رفيقي، فلا اكاد أقف حتى أفقد توازني وأوشك على السقوط أرضا، لولا الأشياء التي أجدها بجانبي لأتمسك بها، في الوقت الذي كان من المفترض فيه أن تكون يدك أنت، هي التي تلتقطني، وتحمي جسدي من آثار كدمات زرقاء تتهدد مساحة بيضاء صغيرة، لم تكن قد طالتها يد الأذى بعد. أما عن القلب فلا تسل.

أنت الذي كان عندك للحب مرادفات كثيرة استوفيتها أنا لأليق بك، كيف لم تستطع أن توفر لي مرادفي الوحيد للحب والذي كان الأمان؟ في كل مرة كنت أركض فيها نحوك هاربة من قسوة الحياة، أبحث فيك عن ذلك الأمان الذي وعدتني يوما أن تمنحني إياه وأن تكون مصدره الوحيد، كان يتضاءل حجم ظهرك وتصير يدك التي عادة ما كانت تكسرني، رخوة لا تقدر على شيء. فلا يسعني أن أختفي خلفك ولا حتى أن أتشبث بيدك، فأبقى وحدي في مرمى الألم كالأعزل في أرض المعركة. وفي ذلك اليوم الذي أغلقت فيه خط هاتفك في وجه خوفي والذعر الذي كان يعتريني، وتركت جملتي المبتورة يتردد صداها في المكان:

أرجوك، لا تتركني وحدي، كنت قد أغلقت باب قلبي أيضا وكسرت بيدك المفتاح الذي لم تصنع منه سوى نسخة واحدة، كنت قد ائتمنتك أنت وحدك عليها.

اليوم، وبعد الكثير من الخيبات، غادر طعم المرارة فمي واستعادت خلايا التذوق الخاصة بي كل قدراتها، فداعبني الجوع لأول مرة منذ زمن لم أكن قد شغلت بعدّ أيامه، إعلانا عن عمر من النعيم بعد سنواتي العجاف معك. اليوم، لم أعد أبحث عن الأمان، لأن الخوف فقد بوصلته إلي. فتضاؤل حجم ظهرك الذي احتجت يوما أن أختبئ خلفه، زاد من قوة ظهري أنا وحجمه، ويدك التي ارتخت فجأة يوم احتجتها لتحضن يدي بقوة، زادت من صلابة يدي أنا وقسوتها.

لقد كانت جملتي المبتورة تلك، الجملة الأخيرة، التي أُسدل بعدها ستار الخذلان الى الابد.

مجلة قلم رصاص الثقافية

عن قلم رصاص

قلم رصاص

شاهد أيضاً

رولا عبد الحميد تقول: إنها تجلس وحيدة في حضرة المحبوب

يقوم نص الرواية على حكاية حبَ بين حبيبين لا يلتقيان أبداَ، يدقَ قلبها، وتشعر بالاضطراب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *