تأمّلات أولى:
تحتاج الحياة إلى ميكانيكي، احتاجت من قبل إلى أنبياء، وعرّافين، وكثيراً ما احتاجت في أكثر نصوصها قراءة إلى مجرمين وقتّالي أرواح. ولعلّ أعلقهم بذاكرتي الآن بطل رواية باتريك زوسكند العطر، مذكّرات قاتل. وتحتاج بجانب الصّخب العاتي والعنف الذّي نقرؤه في أغلب نصوصنا العربيّة إلى الهدوء ومتابعة الحياة مثل شريط سينمائي. كيف لا والرّاوي مغرم بالرّوايات والأفلام؟ لا يغرنّكم إنكاره ذلك في بداية الرّواية، وتعلّمه الأمر من بطلة روايته، فمنذ الصّفحات الأولى ينفتح الكتاب عن نفس تأمّلي هادئ يختصر الحياة في مشاهد متقطّعة كمشاهد الأفلام التسجيلية، تبدأ من الغفلة بمراحلها جميعا، وصولا إلى التشوّه والشّقاء والشرّ والاختلاط بالحب والنّاس والتوحّد والعزلة والتوحّش.
الغفلة مفردة سردية تبدأ بها الرّواية وتنتهي، والحقّ أنّها تحمل كلّ شيء، الرّاوي البطل يعي جيّدا وضعه وهو وضع الغافل الذّي طالت غفلته، فأحبّها، وعاشها. وهو راو متكلّم، قوّال، يحسن صياغة مقاصده، لمّاح، متمكّن من أدواته، متمرّس بالنّصوص، حياته في الورشة حيث “الضّجيج والآلات والرّوائح المنفّرة والكربون الأسود والزيوت والشّحوم، والأكوام الهائلة من الخردة والقطع المستعملة والرّكام البشع من النّفايات”، وحيث تنغرس شجرة محبّة عميقة تصل النّاس ببعضهم، فهم “يحملون قلوبا تنبض بالحياة”. لكنّ ذلك كلّه يدفع الرّاوي بحركة مفاجئة ومتعجّلة إلى إخبارنا أنّ تلك الغفلة صارت أثرا بعد عين، وأنّ العالم لم يعد ورشة ميكانيكا الآلات، بل صار عالم ميكانيكا الرّغبة والحب.
الرّاوي البطل يخبرنا بالقصّة مرّة واحدة، فنفهم نحن أن ليس القصّ هو ما يريده الرّاوي. الرّاوي في رواية زوربا أيضا يخبرنا بقصّته دفعة واحدة والرّاوي في الجميلات النّائمات يخبرنا بالقصة كلّها منذ الصّفحات الأولى. رواة كثيرون لا ينشغلون بقصّ جلد الثّور لإقناع النّاس بتأسيس مدينة، بل يمضون إلى ما هو أبعد من مجرّد القصّ الذّي يلهب الحواس، يتأمّلون ما يحدث فعلا، محاولين صياغة تصوّر للوجود مخالف لما يحدث فعلا. وتنطق الرّواية في كلّ مراحلها بتأملات تعلو وتخفت، تقسّم العالم إلى قسمين:
الأوّل:
نجد فيه الميكانيكي وصبيّه الطفل حيث “مئات المفاتيح والكمّاشات والمفكّات وبعض قطع الغيار المستعملة”، وهو عالم محدود، يرفضه الرّاوي، وينفر منه رغم تصريحه بمحبّته له، فالعمل “آليّ مرهق”، والمكان معبّأ “بالرّكام البشع”، و”النّشاط يكاد يخرج من عينيه”، والمال فيه “يبتلّ بعرقنا”. عمر متطاول مرّ في غفلة ورتابة، تحوّله العادة أحيانا إلى ألفة وكسب حلال، لكنّه في العمق ليس غير حياة غير لائقة بالبطل الذّي يبالغ في الاغتسال بعد العمل ويمعن في فرك الجلد وأخذ الحمّامات الطّويلة، وهو مجبر على العلاقات المحدودة والمباهج القليلة. بطلنا العائش في الأفلام، لم يعد يجد أنّ حياة الورش تليق بحياته، لكنّه يواصل العيش فيها رغم ذلك.
الثاني:
عالم تغيب منه الورشة تماما، ويغيب فيه صبيّ الميكانيكيّ، وآلات التّصليح، عالم لا يحتاج تصليحا، عالم يستقيم نقيضا للورشة، نظيفا دون غسل ودون دعك للجلد، ملهم دون حاجة للتعب والملل، مغو وفاتن، هو عالم شبيه بما يصفه الرّاوي في قصّته والمخرج في فيلمه، شيء لا يوقفه زمن ولا يحدّه مكان، لا يطول كثيرا، ولا ينتهي أبدا، شيء كالحب والولادة، لا يعاد مرّتين.
ثنائيّة طهارة ودنس تظلّ تلاحقنا منذ آدم، لا نعلم لها حلاّ. ينتصر الرّاوي فيها للطّهارة، ربّما بدافع حبكة قبليّة، وربّما بدافع أعمق هو تسلّط ثقافتنا الاجتماعيّة والأخلاقية التّي تعلي من شأن الجميل، وربّما بدافع منطق السرد نفسه. والرّواية تحتفي بالعالم الثّاني، وتمعن في عرضه وتفصيله وتقطيعه في مشاهد متنوّعة، وتعرض العالم الأولّ بمقادير مدروسة تفيد في توضيح الثّاني بطريقة سرديّة معقّدة، فيها “تزمين” وتوقيت ماكر، حيث يوظّف الرّاوي ما حدث في زمن الغفلة من أحداث في زمن الإفاقة والوعي. فنرى ما يكون في ضوء ما كان، فننتصر للحاضر. عالمان لا معنى لأحدهما دون الآخر، ولقد انشددت كثيرا لحياة الميكانيكي بتفاصيلها كلّها، وخصوصا علاقته بالأمّ وطقوسه قبل العمل وبعده، وتمنّيت أحيانا أن يتمهّل الرّاوي في عرضها عرضا مفصّلا، لكنّ الرّاوي مدفوعا مثل آدم بالمرأة يأخذنا إلى عرض آخر نطلق عليه مجازا عالم ميكانيكا المتعة والحب. والبطل في العالمين ميكانيكي يغرف من ماء الغفلة، يعبّ منه عبّا في الأوّل باحثا عن الوعي، لكنّه في الثّاني يعب من الوعي ناشدا الخروج عنه إلى غفلته الأولى. إنّنا نحيا في كون من الغفلات، تلك حقيقتنا، وكل نصيبنا من الوعي إذا حصل تتولّد عنه غفلات جديدة.
فرضية خطابية وسلسلة خيارات:
يبتكر طاهر روايته ابتكارا، ويقيم في نصّه فرضية قولية أو خطابية على حدّ تعبير داريدا، مفادها أنّ العالم الظّاهر البسيط التافه المغلق المحدود مثل عالم الميكانيكي يخفي عالما آخر. عودة هي واعية أو لا واعية لمقولات الرّومانسيين الكون الأصغر الذّي ينطوي على الكون الأكبر. لا يبدو الرّاوي مشغولا ببناء رواية معقّدة، ولا نكاد نفطن إلى تنويعات مربكة في الأسلوب على عادة روائيي اليوم، بل يتابع سرده خطّيا في الغالب باسترسال، ويقطعه أحيانا بفقرات وصفية وظيفيّة وببعض الحوارات الضّروريّة، وأحيانا يقطعه بنظرات استعادية مختصرة. والتغيير الأسلوبي الوحيد كان حين استعمل تقنية “الرّسائل”، ولذلك لضرورة سرديّة مبرّرة ومحدودة على مستوى الحجم.
هذه الفرضية الخطابيّة احتاجت إلى بناء سرديّ يقوم على حبكة واضحة مبسّطة، تدور حول بطل رئيسي واحد يتحرّك في فضاء “مسيّج بالحرام والممنوع”، فبدت أفعاله متباينة متقابلة، واحتاجت لغة “صافية” تخلو تماما من كلّ ما يخدش الحياء، وتحاول أن تخيّل الواقعي وتقول الجميل وتزرع فيه زهر الفكر النّاعم وخيالاته الموحية. واحتاجت أبطالا ثانويين قليلين، أمّا وحبيبة وطفلا، لا نفطن من بينهم إلاّ للحبيبة التّي يمعن في تصويرها حتّى تستقيم حيّة للمبصر، حيّة نعم، تخرجه من عالمه الأوّل وتغويه وترسل في جسده سمّ المعرفة العاصية.
في بنية بسيطة وحكاية تستعاد من قديم الزّمان بصور لا حصر لها يتحرّك طاهر، وينسج في نصّه سلسلة إحالات كما يقول داريدا، إحالات معرفية عن كتب وأفلام وبيئات ورؤى وثقافات وأفكار تتعلّق بالمكان وعلاقة المرأة بالرّجل واستيهامات فكرية تصنع نسقا بموجبه يستقيم النصّ شجرة تطرح زهرها الخاص وثمرها الخاص. فالرّاوي لا يبدو مقبوضا أو مجبرا أو مصنوعا أو مقودا من شعره من طرف الكاتب، بل نجده عارفا متحرّرا يتصرّف على هواه، لا يروي “والأكباد تحترق” كما تقول العرب، بل يروي ليخبر بما علمه ويشهد بما حدث، ويروي ليدفعنا للتّصديق. ويهتمّ كثيرا بنا ويريد إمتاعنا، ويدفع على بطليه كلّ “عار” قد يلحق بهما، لكنّه ينحاز دون مواربة لبطله، حتّى كـأنّه هو، يتماهيان. وهنا تحضر الأنا محبوبة مفضّلة منزّهة قادرة واعية بتلفها الماضي وراغبة في التحرّر. روائيّون كثر يسردون باستعمال الأنا، لكن أناهم تفيض بالقسوة والعنف والكره والشدّة، وتمعن في الخطأ ولا تنزّه أبطالها ولا تفخر بالوعي والعقل، “فكلاهما عاهر كبير” كما يقول سارتر. إنّ الرّاوي في رواية الميكانيكي مقود بنوع من الرّهاب الأخلاقي الذّي يرى الشرّ شرّا والخير خيرا، ويمتدح، دون قصد، الطّهارة، ويدعو ضمنيّا إلى الرّفق بالمساكين (الطفل العامل مثالا)، وحبّ الأقارب (الأمّ مثالا).. وهي رؤية مناسبة لموضوع الرّواية ولمستوى البطل، لكنّها لا تبدو مناسبة للبطلة التي تبدو بتأثير مرضها ربما هازئة بالمواثيق والسلوكيات المتواضع عليها. ولقد جعل طاهر روايته تسير إلى نهايتها السّعيدة أو الحزينة، لا فرق، دون مفاجآت، فالأجساد تظلّ في رواية طاهر كشجيرات الموز تعلّق موزها في فضاءات الرّغبة، ووحده الحبّ هو ما يشغل الرّاوي بوصفه ميكانيكا الحياة الحق.
إنّ تجربة الحبّ بغضّ النّظر عن ظروفها ومع من هي التّجربة الأحق بالحياة، نتيجة متوقّعة من كتاب مماثل وضرورية في بيئة مماثلة، بفشلها لا تتوقّف الحياة، بل تتغيّر، يعود الرّاوي لأمّه وصبيّه ولجميع أدوات إصلاح السيّارات. هذا العالم يحتاج إلى إصلاح تماما مثل السيّارات المعطّبة. ينزع طاهر قشرة الجمال الرّخوة بقسوة، ويخاطبك في وجهك: أنت مجرّد خردة، أصلح نفسك المعطوبة.
بإمكاني الآن تلخيص الرّواية في كلمتين، قصّة حب حزينة في بلاد لا تحفل كثيرا بالحب، وعلاقة تبدو ناتئة كطفح جلدي أو بروز لحمي في الظهر، لهذا يجنح الرّاوي ومن ورائه الكاتب إلى أسلوب التداعي الحرّ لاستنطاق البطل وسماع هواجسه وقلقه، وحين لا يكفيه التداعي يستعمل السرد الشعري، فالوقائع قليلة، وهي في الغالب منتظرة، وبعضها كان بلا داع إلاّ ضرورات السرد من تبرير وغيره وخصوصا مرض الأم والحبيبة. ولكنّ الرّاوي منقادا باستراتيجية المتابعة، متابعة البطل، يهمل برامج سردية كثيرة ممكنة ويهتمّ بالصدفة كثيرا، والصّدف على أهميتها في الحياة، فإنّها في السّرد الروائي لا يعوّل عليها في صنع الحبكة وتوفير الانسجام النصي. وبعيدا عن ذلك كلّه تبقى رواية الميكانيكي قصيدة رومانسية تندسّ في ليلنا العاصف بالثّورات والحروب لتمنحنا لحظة استرخاء وفضاء للبوح وامكانية لخفقة فراشة في الظلام.
سيارة الجسد المعطوبة بين يدي الميكانيكي والمثقّف:
تطرح الرّواية عديد القضايا إن قصدا أو عرضا، وأحدها وأكثرها حضورا مسألة الجسد، فطاهر الزهراني على عكس روائيين كثيرين لا ينظر للجسد باعتباره معطى غريزي، وليس باعتباره منبع لذائذ حسّية كما هو الجسد في أغلب نصوصنا، بل يجعل منه وسيلة تغيير وآلة أخرى من أدوات تصليح ماكينة الإنسان الخربة. الجسد المذكّر أي عادل يشعر أن جسده ليس غير قيد فيتجاهله تماما، إلاّ في بعده الوظيفي العملي الآدائي، أمّا الجسد المؤنّث فإنّه ليس غير مصدر للإبداع والإيحاء الفنّي واللّغوي. رؤية للجسد لا تخرج عن ثنائية الجسد قيد/ الجسد حرية، تصدر في الغالب عن رؤية أخلاقية منضبطة للذّوق العام ومع ذلك فإنّنا نلحظ أنّ جسد عادل ليس جسدا ناميا، فلقد حافظ على عذارته وإن سعى إلى “تدنيسها” بالسفر والقراءة ومشاهدة الأفلام ولقاءات الحب، لكنّه تدنيس بالعين فقط، تدنيس ثقافي لا يهدف إلى التّهوين من شأن المقدّسات، بل يصنع لها إطارا لتتمكّن.
لقد أمكنني بواسطة متابعة الحضور الجسدي للبطلين ولبقية الأجساد أن اكتشف حضور بنية حضارية وإيديولوجية وثقافية واجتماعية وثقافية قاهرة، وهي بنية مجتمع مخصوص لا يزال رغم مدنيته المتسارعة منشدّا إلى المحافظة والانخراط تحت سلطة القيم القديمة. وطاهر هنا يحاول وصفها، ويضفي عليها دون قصد مسحة من المعقولية فهي في الأخير لا تخرج عن تلك الغفلات التّي شكّلت حياتنا الأولى. وطاهر يغيّب الخطاب الجنسي الحاد المخلّ “بالأخلاق الحميدة”، ويختار لغة صافية، وبطله محتف بالحواس معتن بجسده غسلا وفركا وتعطيرا وتنظيفا وتغذية، ونكاد نراه وهو يعيش بجميع حواسه في حياته العادية، لكنّه في الحبّ بسبب طبيعته الخاصة ربّما، ينزع إلى نوع من الخطابات الرومانسية التّي تقدّس الأنثى وتغضي تماما عن “حيوانيتها”.
ما يبدو غريبا في الرّواية أنّ الميكانيكي لم يتصرّف انطلاقا من ثقافة الميكانيكي في جسده، ولم يعتبره سيّارة معطوبة، ولم يتقبّل النّظر إلى جسد المرأة باعتباره مجال تدخّل وعمل حسّي. لهذا قدّمت لنا الرّواية رؤية ثقافية للجسد وللعلاقة، هي رؤية المرأة وليست رؤية الميكانيكي، فبدا الحبّ بعيدا عن الممارسة، وبقي الجسد “طاهرا نظيفا” مجرّدا عن الرغائب وبعيدا عن يد الميكانيكي المجرّب المدرّب وآلاته وحسّيته. ووقعت تبعا لذلك عملية استبدال كبرى، فغيّب الجسد الواقعي وتمّ الاحتفاء بجسد ثقافي ووقع تحويله عبر خطاب شعري إلى لا جسدي، وحمّل بقوى ليست فيه، ومنها القدرة على طرد الغفلة، فحضرت المرأة حضورا شبيها بحضور صوفيا لورين أو مارلين مونرو أو ساندرا بولوك، حضورا أيقونيا. هل يرى طاهر، بطريقة ما، أنّ الخلاص في اتّباع النّموذج الجسدي الثّقافي الغربي بعد حذف جسديته المتمثلة في البعد الحسّي؟ ينزه طاهر المرأ ة تنزيها مطلقا، فهي لم ترفض عادلا لأنّه ميكانيكي، بل لأنّها مصابة بمرض خطير. لماذا يريد الرّاوي أن يطهّر النموذج من الشّوائب؟ والرّواية تحفل مع ذلك بوصف ثقافي لجسد يكفّ تدريجيّا عن “الممارسة” بما هي فعل وجود إلى القراءة والمشاهدة ووسائل الاتّصال الحديثة، وتمتلكه اللّغة، فلا نجد في رواية الحبّ قبلة واحدة أو ضمّة أو شمّة أو عناق ولا تمخيض ولا إيلاجات طبعا… ولا شيء، إلا عالم من المتع الصّافية. والحق أن طاهر يمتعنا ويحملنا عاليا وبعيدا في متابعة إغوائيّة لعلاقة استطاعت أن تمنحنا، نحن الآلات المعطوبة الخردة المرمية مع الاسطوانات القديمة والألعاب المكسورة والمصابيح الممنطفئة، أملا في الخلاص آتيا من الفضاء نقيا أبيض.
تنغلق الرّواية مثلما بدأت بكلمة الغفلة لتدلّ على دائرة مغلقة يحياها الجسد محاطا بالغفلات، منتظرا يد الميكانيكيّ الماهرة التّي تصلح ما خرّبه الزّمان من أموره، لكنّ هذه اليد تبدو للأسف منشغلة بخلاص آخر يأتيها من بعيد فيمدّ أمامها سرير العالم وألوانه المحلّقة بأجنحة الرّغبة، أمّا السرّ فإنّه الحبّ حاضن الحواس ومفجّر الوعي.
مجلة قلم رصاص الثقافية